العقل والتفكير وأثرهما في النهوض الحضاري
في قاعة جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية
والمعهد العالمي للفكر الإسلامي
9/10/1995
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية لابد من إزجاء الشكر للقائمين على جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي/مكتب الأردن، وعلى التخصيص الدكتور فتحي ملكاوي، أمّا الحضور فلهم شكران، الشكر الأول لاهتمامهم في حضور الندوات الثقافية، والثاني لحضورهم هذه المحاضرة بالذات.
أما الجند المجهولون في هذه المحاضرة وغيرها، فهم العاملون في جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، إذ لجهدهم الطيب العملي نحن مدينون.
عنوان هذه المحاضرة، يحوي خمس كلمات هي: العقل/التفكير/الأثر/النهوض/الحضاري، وهذه الكلمات من مواضيع الجدال بين المثقفين، إذ لا تستحضر هذه الكلمات معنى وحداً في الذهن، وإنما تستحضر معان متباينة في الأذهان، فكلمة عقل والترجمة الإنجليزية لها هي : mind فهل يتطابقان في المعنى والاستعمال؟ وهل اتفق العرب الأعراب أو العرب العاربة على معنى لها؟
إن كلمة عقل العربية اللغة، الإسلامية المضمون، أثارت سابقاً جدلاً عنيفاً بين المدارس الفكرية الإسلامية، ولا زال هذا الجدل شديداً داخل التوجهات الإسلامية، وهي الآن تثير جدلاً محتدماً وعنيفاً بين تيارات التغريب –على اختلاف أنواعها- والتيار الإسلامي، فالغرب ودعاته في هذه المنطقة، يحكم لأفكاره بأنها عقلية، وأنها علمية، ويحكم على الفكر الإسلامي بأنه فكر حدسي.
إن كلمات: عقل ولب وحجر ونهى وحلم وفؤاد في سياقات وتراكيب معينة، إنما يراد بها العملية العقلية، ومع أنها تشترك في دلالاتها على العملية العقلية، إلا أنها تختلف في الدرجة اختلافاً ظاهراً.
كلمة العقل ليست من أسماء الذوات، كرسي قلم إنسان شجرة جاموس …الخ، وليست من كلمات المعاني المدركة إدراكاً مادياً ظاهرياً، حراثة زراعة هجوم حصيد وليست من كلمات المعاني المدركة إدراكاً شعورياً، رضا حب حنان غضب عطش وليست من كلمات المعاني المجردة المطلقة، التي لا يُحَدُّ مداها، الكمال المطلق ، الأزل في معناه المطلق، الأبد ، السرمد ، الخلود ، العدم عندما يراد بها المطلق وهي ليست من كلمات العلاقات، جنب، مع، فوق، تحت، في، أيضاً ولهذا لم تأت في القرآن الكريم كلمة عقل، وإنما وردت عقلوه/تعقلون نعقل/يعقلها/يعقلون في تسع وأربعين موضعاً.
لا يستطيع واحد أن يقول لآخر (أين عقلك؟) سائلاً عن ماهية اسمها العقل، ومع أنه يستطيع أن يسأله ذلك على المجاز، أي كيف عقلت هذا الأمر، ويستطيع أن يقول: كيف يعقل الإنسان أمراً؟ مثل ما أنه يستطيع أن يقول للآخر، كيف تضحك؟ أي يسألُ سؤالاً في محل التعلم، ويستطيع الآخر الذي يجيب، أن يفسر كيف يضحك تفسيراً فسيولوجياً، أي تفسير يرتكز على آلات الضحك، إلا أنه لا يمكن له أن يفسر كيف يعقل تفسيراً فسيولوجياً، مع أنه حقيقةٌ تحدث أمورٌ فسيولوجية، في خلايا الدماغ حين عملية التعقل، ولكنها جزئيةٌ لا تُفَسِّرُ عملية التعقل.
الإنسان كائن عاقل، تقال عند محاولة تمييز الإنسان عن غيره من الكائنات، ولكن هل يمكن أن نقول الملائكة عقلاء؟ أو نقول الجن مجموعة عقلاء؟ أي يعقلون الأمور أو أن نقول الله عاقل؟
يجزم الباحث أن الملائكة تعرف بالضرورة، ولا تعرف بالعملية العقلية، ويجزم الباحث أيضاً أن الجن تعرف بالضرورة مع تخييرها في الانحياز إلى ما تعرف سلباً أو إيجاباً ولكنها لا تعرف بواسطة العملية العقلية، ويُعلم أن الله عالمٌ لا يجهل، ولا نقول عنه عارف.
ما يستطيع الباحث أن يقوله أن الإنسان وحده دون خلق الله أجمعين مميز بالعقل، فالكائن الوحيد العاقل هو الإنسان، وبسبب عقله أنيطت به مهمة الاستخلاف في الأرض. "معنى المعرفة ضرورةً خلق الله المعرفة للكائن لا اكتسابها".
ماذا يعني أن الإنسان هو الكائن الوحيد العاقل؟ هل معنى ذلك أنه مخلوق منذ يومه الأول أي منذ الولادة عاقلاً؟ والجواب طبعاً لا، وإنما العقل عنده لا وجود له أبداً، وإنما كل ما هو موجود منذ ولادته وبسبب من جين (مُوَرِّث) فيه هو جهازه العصبي، بخلاياه الملايين، والدماغ يباشر مهمته التي هي السيطرة على الوظائف الفسيولوجية الحيوية، من مدركات حسية متعلقة بالحياة والحفاظ عليها منذ الولادة، ولكنه لا يباشر العملية العقلية أبداً، فالطفل لا عقل له فالعقل مكتسب ولا يوجد إلا بالاكتساب {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}.
يبدأ تكوين العقل عند الطفل من بدايات التمييز، حين يتجاوز صور الأشياء (الإدراك الحسي)، وصور الأشياء التي تشبع، والأشياء التي تؤلم، إلى معرفة الأشياء، وإطلاق أسماء على هذه الأشياء، وهكذا فهو يكتسب العقل من والديه وبيئته، والناس حوله من مدرسة ومجتمع، وهو هنا يختزن في خلايا دماغه معلومات عن الأشياء، فإذا حصل على جملة من المعلومات التي تمكنه من القدرة على النظر والاستدلال، وصف بالعقل، وبهذه القدرة يتمكن من إعادة النظر في كونه الذي يعيش فيه، وفي المقولات التي تلقنها، ليدرك صحتها وصدقها، وهذا العقل يسمى العقل الناظر، والعقل الناظر هو العقل المكلف، ولهذا فإن الحديث "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" لا يبحث عن إيمان فطري، وإنما يبحث عن أن التلقين بموضوع الإيمان، يعني الوقوع بالخطأ.
كيف يعقل الإنسان؟ وماذا يعقل؟ وماذا لا يعقل؟
يعقل الإنسان من خلال عملية عقلية مركبة، لا يمكن الفصل بين أي أمر منها والآخر، فلا يوجد في العملية العقلية عنصر أساسي وعنصر ثانوي وآخر مشتق، بل هي عملية مركبة، هي: واقع أو حادث أو شيء يقع حس الإنسان عليه، وحواس تنقل صورة الواقع إلى خلايا الدماغ، وعملية ربط بين ذلك الواقع والمعلومات المتعلقة بهذا الواقع، وهي معلومات مختزنة بخلايا الدماغ (خلايا خاصة)، هذه هي العملية العقلية بصورتها البسيطة وهذه العملية العقلية موجودة عند كل إنسان، من سن التمييز إلى الوفاة، ما لم يحدث حادث يعطل العقل، هذا العقل البسيط جداً موجود عند البدائي، والذي قطع أشواطاً عديدة في سلم الارتقاء.
أمّا ماذا يعقل الإنسان، فهو لا يعقل إلا ما يقع تحت حسه، ويصدر أحكاماً حول هذه الأشياء، أي إثبات وجود الأشياء، والصفة الوجودية التي هي عليها، ثم ماهيات هذه الأشياء، وينبثق عن فهم الماهيات تصرف الإنسان تجاهها، من تسخير أو اتقاء، ثم تُدرك علاقات هذه الأشياء ببعضها أو بالإنسان.أما ما لا يعقله الإنسان فهو كل محجوب بحاجب الزّمان أو المكان، ومع هذا فبإمكانه إدراك ما لا يقع حسه المباشر عليه، من وقوع حسه المباشر على آثاره، أو من خبر عن شيء محجوب، ينتمي إلى معرفته الناتجة عن الخبرة الحسية .
تلك هي المساقات التي يتحرك بها العقل، ولا يمكنه تجاوزها، إلا من خلال عملية عقلية أرقى من كل العمليات السابقة، هي عملية التفكير ففي عملية التفكير يتجاوز العقل مساقاته الحسية، ليضع هذه المساقات الحسية، موضع تفكيره، فإن كان التفكير يتجاوز ظاهر الأشياء المدركة حسياً نتج عن هذا التفكير المدركات العلمية، التي هي في الحقيقة اكتشاف خصائص الأشياء، وبالتالي تسخير الطبيعة والهيمنة عليها بالمتاح، لكن هذا التفكير يوقع الإنسان في ورطة! إذا لم يتجاوز تسخير الطبيعة، وينقلب شقاءً للبشرية، فالإنسانية بحاجة أيضاً إلى تنظيم تسخير الأشياء، هذا التنظيم وان كان بإمكانية العقل الوصول إليه، لكنه لا يمكن أن يكون تسخيراً يرضى عنه الناس، وهذه الأسئلة هي من أين أتيت؟ ولماذا جئت؟ وماذا يفعل بي بعد الموت؟
تلك الأسئلة الثلاثة، ليست أسئلة التدين، فالمتدين يكفيه تلقين فطرته أنه مخلوق مربوب، وأن خالقه كلفه بالعبادة، مثل الصلاة والصوم والحج والنذر …الخ، وبعد ذلك لا يضره ما يفعل هو بنفسه، أو ما يفعله بالغير، أو ما يفعل الغير به، ويعيش مع الجماعة التي يعيش فيها وهو منها، عيش القطيع، وهكذا يتحول المجتمع إلى حالة مفككة لا حول لها ولا قوة، وتقفز إلى موضع قيادتها السياسية الفئة الأقوى، فتسير الأحكام والقرارات خادمة للفئة التي في موقع القرار.
وإذا الفئة تعمل لمصالحها الذاتية، ضربت بمصالح الأمة والمجتمع عرض الحائط، -ومع القرن العشرين- وامتلاك دول الغرب على شكل انفرادي القوة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، ارتمت الفئة الأقوى في أحضان دول الغرب، وصارت دولة الفئة الأقوى تصطك ركبها رعباً وهلعاً من الغرب فسجدت للغرب وأشبعت السياط من جلود الأمة، فركضت الأمة تقبل حذاء قاتلها، والعالم الثالث خير مثل على ذلك.إن الأمة التي تلغي عقلها، وترى في التفكير ضلالة إن لم تراه كفراً، لا يمكن أن تحافظ على كيانها، وإن كانت باقية على تدينها وعبادتها، وهذا الفصام بين التدين وصناعة الحياة، أوجد ما يسمى بحالة التوهة والضياع.
هذه المقولات هكذا مقولات دوغمائية، فلابد من محاولة وضع الإصبع على مدلولات المقولات السابقة، من خلال ملاحظة ما يلي من الأمثلة وهي بعض من كثير.
(1) النصرانية : عقيدة تدين، أي هي دعوة للناحية الروحية في الإنسانية، ورغم اعتناق أكثر من ملياري نسمة للنصرانية، إلا أنها فقدت وجودها السياسي والاجتماعي، وبقيت حالة تدين في خدمة الليبرالية السياسية الغربية، ومن المؤكد أنها فاقدة لإمكانية إعادة إنتاج حضارة على أساسها، تأخذ مكانها في العالم، والسؤال هل يمكن أن تعود كحضارة عالمية؟ إذا كانت دعوتها للناحية الروحية فقط! كلا فمن المستحيل أن تعود الحضارة المسيحية للوجود إذ هي فاقدة لأسباب الحياة.
(2) البوذية : حالة تدين بغض النظر عن الظواهر الوثنية فيها، ومع أنها موجودة في الهند والهند الصينية والصين واليابان، وهي تقوم على مجموعة من الوصايا الدينية والأخلاقية، مثل ألا تقضي على حياة. لا تقل ما هو غير صحيح. لا تستعمل شراباً مسكراً. لا تباشر علاقة جنسية محرمة. لا تأكل في الليل طعاماً نضج في غير أوانه. لا تقتن المقاعد والمساند الفخمة، لا تحضر حفلة رقص أو غناء، لا تقتن ذهباً أو فضة. ومع ذلك فإن البوذية نفسها، رغم هذه الوصايا هي في حالة تحلل وعجزت عن نظام سياسي واجتماعي بوذي.
(3) الصحوة الإسلامية : منذ بداية العقد الثامن من القرن العشرين شهد العالم صحوة إسلامية، تباينت محتوياتها، ولكن من حيث التوجه توجهت، اتجاهاً واحداً، هو بعث الحياة الراكدة في الأمة الإسلامية، ومع هذا فإن حصادها المر في لبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين أبلغ من القول.
إن الأمة أية أمة لا يمكن أن تعيش على التدين، لأن التدين غريزة واحدة من غرائز الإنسان، فالإنسانية لها مطالب حياتية أخرى، الأمن بكل أحواله: أمن من الخوف، أمن من الجوع أمن من المرض أمن من الظلم أمن على العرض أمن على الكرامة، وهو يحتاج إلى تملك حاجاته، وإلى طمأنينة في المستقبل على بقاء جنسه ونوعه، فضلاً عن أنه يسعى لتحقيق ذاته في الاحترام والتقدير، من المجتمع، كل ذلك لا يحل إلا بوجهة نظر شمولية، تتسع لإعطاء حلول لهذه المشاكل مهما تغير الزمان والمكان. أي هي قادرة على إعطاء الحلول وإثبات القواعد.
(4) التجربة الشيوعية السوفيتية : في أكتوبر عام 1917 تمكن الحزب الشيوعي الروسي من الإطاحة بنظام القيصرية الروسية وتسلم المفكر الروسي لينين قيادة الدولة وأعطى بعداً جديداً للفكر الماركسي أهمها تنظيره بأن الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية مات سنة 1924 تولى قيادة الدولة بعده ستالين وانفرد بالزعامة بعد طرد منافسيه تروتسكي وزينوفييف اعتمد السياسة العسكرية: امتلاك قوة الردع، والحرب الباردة وعدم المشاركة بالمؤتمرات الدولية وسياسة الستار الحديدي وسائله للحفاظ على الحزب والدولة وأقضَّ مضجع خصومه العالم الليبرالي مات عام 1953 وخلفه مالنكوف ولم يكن قوياً مثل ستالين توجه نحو الصناعات الخفيفة وتمكن خريتشوف الذي صعد نجمه كسياسي شيوعي بارز من تسلم قيادة الحزب والدولة والاتحاد عام 1955 إلى عام 1957؟؟ ليصبح الرجل الأقوى في روسيا سار دولياً في سياسة التعايش السلمي مما أحدث انقساماً خطيراً في المعسكر الشيوعي وهو انفصال سياسة الصين عن المعسكر ومنذ ذلك التاريخ والسياسة الشيوعية تسير في جملة تحولات متناقضة ومتعارضة إلى أن تولى غوربتشوف الحكم معلناً سياسة البيرسترويكا فتسارعت الأحداث وأزيلت الشيوعية الروسية والاتحاد السوفياتي.
إن فشل التجربة السوفيتية حدث لأنها لم تهتم بطرح فكرة سياسة يعتنقها الناس في الاتحاد السوفياتي وبالتالي كانت الفكرة السياسة هي فكرة حكام الشيوعية أما الجماهير فهي في واد آخر وبالحقيقة هي فكرة أصحاب الياقات البيضاء مع اختلافهم.
في هذه الإلمامات الأربعة يُعلم مدى أهمية التفكير السياسي في إقامة الدولة والحفاظ عليها والسير بها صعداً في مدارج الرقي والمقصود بالتفكير السياسي فكر رعاية الشؤون في الداخل والخارج في الداخل لحل المشكلات وإعطاء المعالجات وفي الخارج للحفاظ على هيبة الأمة والدولة والتأثير بالأحداث العالمية.
إنّ البحث بالعقل كمنتج للتفكير والبحث بهما معاً لإنتاج النهوض الحضاري والاستمرار بعيش الأمة والدولة عيشاً حضارياً ومحاولة تأثير حضارة الأمة بالحضارات الأخرى بجعلها تتأثر أو تنتفع بحضارتنا وجعل حضارتنا قائمة وباستمرار على الإنجاز في الاكتشاف والاختراع والإبداع وتوجيه الاكتشافات والاختراعات والإبداعات لخير الأمة وزوال شقاء العالم كل ذلك ليس بحثاً في التفكير العادي أو الذاتي فالإنسان ما دام حياً ويقظاً أي ليس نائماً أو غافياً أو ساهياً هو مفكر فالحاضرون لهذا المنتدى جاءوا بسبب التفكير والمستعملون لهذا النص إنما يستمعون للنص للتفكير فيه والذين يطلبون التعليق بعد السماع يطلبون التعليق بسبب التفكير وانصراف كل واحد بعد وقت المحاضرة إلى بيته أو إلى أي مكان آخر إنما هي أعمال بسبب التفكير فالتلازم بين الإنسان والتفكير تلازم لا ينفك أبداً.
إن موضوعَيْ العقل والتفكير اللذين يعرضان من خلال هذا القول فالمراد بهما الطريقة التي تعقل به الأمور الجماعية للأمة وإنتاجه تفكيراً ينظم حياة الناس الجماعية على وجه يزول به الشقاء والقلق ويحل محله الاطمئنان والعدل ومثل هذا العقل أي العقل السياسي لا يتأتى وجوده دون وجود إيمان بقاعدة أساسية في جوابه على الأسئلة الثلاثة من أين أتيت؟ ولماذا جئت؟ وماذا يفعل بي بعد الموت؟ إجابة يعطيها العقل من خلال آلية النظر أي التفكير بالإنسان والإنسانية من حيث هما الوجود الواعي والتفكير في هذا الكون الذي يعيش فيه والتفكير في نمط الحياة التي يجب أن يحياها رابطاً كل ذلك بما قبل هذا الوجود ومجيباً عن المصير الذي يؤول إليه هذا الوجود بطريق البرهان منتجاً إيمانياً لا يعتريه الشك يسير على هديه في إنتاج حلول لمشاكل الحياة منبثقة عن الإيمان أو مبنية عليه أي وجود معارف لها مرجعية وتتحرك في أفق معرفي وتعالج واقعاً حياً معاشاً، وتسخر خصائص الأشياء دون جور لصالح الإنسان والمجتمع والأمة والدولة. ولكن هذا التفكير وهو يتعامل مع الإنسان في كينونته الاجتماعية والإنسان له مغالطات في التفكير وما يلي هو نمط من هذه المغالطات:
(1) التحجر والتجمد على الموروث فالحياة نهر مستمر الجريان فلابد أن يتوقف التفكير.
(2) المغالطة في حقائق الأشياء أو منهج المعالجة فمثلاً في المغالطة في حقائق الأشياء (مجريات الأحداث في كل من فلسطين وأفغانستان) في فلسطين كان يجب أن يكون الرد هو إقامة دولة وحدة محيطة بفلسطين ومباشرة الأعمال السياسية ضد ما تعتمد عليه دولة اليهود في وجودها أما الرد الذي حصل في إقامة فصائل فلسطينية ثم في الانتفاضة فإنه سيّر الأحداث نحو أوسلو وواشنطن.
(3) في إنتاج تفكير نخبوي تعرفه النخبة ولا تدركه الأمة وتقع النخبة وهي تظن أن الأمة معها في حالة مواجهه مع السلطة فإذا هي تنكشف أنها وحدها في الميدان وهي في هذه الحال إما أن تستسلم أو تباشر المواجهة وخير مثال على ذلك أحداث جبهة الإنقاذ في الجزائر.
(4) في ربط النهضة بمجرد الأعمال بغض النظر عن الأعمال، فالنهضة لا تكون بالأعمال ولا بالأقوال ولا بالأفكار بل هي عملية جماهيرية مركبّة 1. من حسن معنوي جماعي بضرورة التغيير. 2. منظومة فكرية تعين صورة هذا التغير. 3. أعمال ثقافية وفكرية وسياسية وصراعية في سبيل التغيير. 4. تعيين الهدف بوضوح من خلال ارتباط تام بين منظومة التفكير والأعمال التي يراد أن تجري. 5. تعيين الوسائل والأساليب والأدوات لإنجاز العمل. 6. تعيين المرحلة تعييناً تاماً حتى لا يقام بأعمال مرحلة لم تأت بعد.
يوصي واصل بن عطاء عثمان الطويل عندما أرسله إلى أرمينية لبناء القاعدة الجماهيرية كما هي مصطلحات الفكر السياسي اليوم يقول له: 1. الزم سارية من سواري المسجد سنة تصلي عندها حتى يُعرف مكانك. 2. أفت بقول الحسن البصري في السنة الثانية. 3. فإذا كان يوم كذا من شهر كذا فابتدئ بالدعاء للناس إلى الحق فإني أجمع أصحابي في هذا الوقت ونبتهل إلى الله والله ولي توفيقك وتتكرر هذه الوصية بنفس الصورة كلما أرسل داعية إلى واحد من الأمصار الأخرى.
والسؤال الذي يرد هل الجماهير قادرة على إدراك الأفكار أليس في خطاب الوعظ والعمومات الإسلامية التعبدية والأخلاقية والمسلكية ما يكفي لإحداث النهوض والجواب أن الفكر من حيث هو فكر يحتاج إلى إنشاء من قبل المفكرين وإدراك لمعطيات الفكر من قبل الدعاة وقبول للفكر من قبل الجماهير والفكر من حيث هو فكر أما فكر في الجلي من الكلام أو فكر في الدقيق من الكلام والجماهير قادرة على إدراك فكر الجلي من الكلام والجلي من الكلام هو الأساس وعليه الاعتماد في إحداث عمل العقل وإدراك التفكير والدقيق من الكلام يحتاج إليه المفكرون المفكر الإنشائي أو المفكر المدرك لما أنشأه غيره.
والسؤال الختامي لموضوع العقل والتفكير هو: هل يمكن تعلم التفكير؟ والجواب هو أن التفكير متعدد الأنواع وللعقل سبل شتى ومسالك متعددة للتفكير ومواضيع التفكير مختلفة ومتباينة "ما يسمى بقضايا التفكير" وإذ قيل أن الإنسان كائن مفكر على وجه التلازم فإن المسألة ليس وجود التفكير عند الإنسان بل وجود تفكير معين وذلك يقتضي وجود طريقة تفكير معينة ومميزة ومن أنواع التفكير:
1. التفكير العادي 2. التفكير السطحي 3. التفكير العميق 4. التفكير المستنير
أما موضوع التفكير فهو الكون المنظور أو النص المسطور وأما أفق التفكير فهو المعلومات التراثية والمعلومات المتولدة.
إن البحث وهو متركز على فكر النهوض الحضاري، فإن فكر النهوض الحضاري لا يمكن الوصول إليه إلاّ في التفكير المستنير {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} وهذه الآية ليس رفضاً للجدل بل هي رفضٌ للجدل المفتقد الأسس والمعالم وهي طلب بمفهوم المخالفة للجدل المؤسس على المعالم وإذا أضيف إلى ذلك أن القرآن طلب الجدل في قوله {وجادلهم بالتي هي أحسن} وفي قوله {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وفي دليل الإشارة المأخوذ من آية {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} وفي إقرار القرآن الكريم لجدل المرأة حول قضية خصوصية {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} من كل هذا يعلم أن التفكير ثم عرضه بالجدال هي طريقة إدراك التفكير في مجمل الأمة والجدل يقتضي لغة للجدال هي وعاء التفكير وأداة الجدل هكذا يُعلم أن أسس التفكير الجماعي هي:
1. مفكرون 2. واقع يفكر فيه 3. وعاء للتفكير هو اللغة 4. طريقة تفكير هي المعلومات المتعلقة بالواقع وما حوله وما يتعلق به 5. جدل متواصل لإيصال هذا التفكير للجماهير مرتكزاً للمعلومات والقواعد وبمقدار كثرة المعلومات وحسن استعمالها وبمقدار سعة الوعاء الذي يؤدى به التفكير إضافة إلى التدرج في إعطاء التفكير وتنزيله على واقع حي معاش 6. يؤديه مفكر رسالي مؤمن برسالته مخلص كل الإخلاص في أدائها لا ينكص على عقبيه حين تعترضه المعوقات والمصاعب 7. مواصلة التفكير إنشاءً جديداً وارتقاءً في البحث والعرض وتحديداً للفكر وصفاء فيه بحيث يبدو الفكر واضحاً جلياً ونقاء أي لا يخالطه فكر آخر أو مفهوم قام على أساس آخر وبلورة تجعله متركزاً في الذهن 8. وهو تفكير سياسي أي تفكير رعاية تظهر فيه الجماعية بوضوح وجلاء.
إن هذا التفكير ليس هو التفكير التربوي أي تعليم الأطفال التفكير وليس هو تعليم التفكير العلمي إثارة المشكلات ومحاولة البحث عن حل وبعد هل بقي ما يقال والجواب ما نسبة ما قيل إلى ما بقي لم يقل، ما قيل مجرد نقطة من بحر المعرفة التي تنمو كل يوم وتتراكم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما قيل هو قول اجتهادي بشري فيه من النقص ما فيه ومناقشاتكم هي التي تجبر وتسد النقص كلياً أو جزئياً.
والشكر كل الشكر لله المنعم المتفضل علينا بالخلق والعقل والاستخلاف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.