قراءة في اعجار القرآن

 

كتاب جدل الأفكار 29

قراءة في إعجاز القرآن


المقدمة

هدف هذه القراءة

تهدف هذه القراءة إلى إعادة بناء الفكر الإسلامي في موضوع خطير جدا ، هو موضوع إعجاز القرآن ، ذلك أن الإعجاز يتعرض الآن لقراءات جديدة ؛ بحجة تطور المعرفة ؛ وتطور العلم من جهة أخرى ، وبدعوى عدم توقف المعرفة عند الماضين من جهة ثانية ، ويستشهد دعاة عدم التوقف عند الماضين بالآيات المنددة بالتوقف عند ما ورثوه عن الآباء ، وهذه هي الآيات : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ )(البقرة:170) وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ }(المائدة:104) وقوله : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }(يونس:78) وقال تعالى : { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ }(الأنبياء:53) وقوله { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }(الشعراء:74) وقال أيضا { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }(لقمان:21) ومثلها قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ }(الزخرف:22) وفي آية قال :{  وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}(الزخرف:23) ويعلم القارئ للقرآن وجود آيات متعددة في هذا الموضوع غير هذه الآيات ، والغريب كل الغرابة أنـهم في حالة إصرار على التمحور حول موروث الفرقة والمذهب ، في كثير من قضايا الفكر الإسلامي ، ومواضيع  الإيمان ، وكيفية أخذ الأحكام ، ولـهذا يمتنعون وبرفض فيه من الشدة والحدة والنظر بازدراء لمن يدعو لإعادة النظر في قضية خلق القرآن مثلا ؛ فيرفضون إعادة النظر بالقول الموروث [ بأن القرآن غير مخلوق ] مع أنَّ قبول البحث بأنَّ القرآن معجزٌ دليلٌ واضحٌ بيِّنٌ على كون القرآن مخلوقا ، فكل معجزة له تعالى مخلوقة ، وكونه غير مخلوق ليس منطوقا به من الوحي ، وليس مفهوما من دلالات أخرى غير دلالة المنطوق ، بل هو مجرد مضاهاة لقول اليهود والنصارى في قدم الكلمة ، فإن هؤلاء دعاة التجديد والإبداع والحداثة يقيمون الدنيا ولا يقعدونـها ، على فتح مثل هذه المواضيع ،  فلماذا تباينت مواقفهم ؟ فهم مع جديد القول وليسوا مع إعادة النظر في مثل هذه المواضيع ؟ ووقفوا لاهثين عند تقليد من لا يجوز تقليده ! من منظومة الأئمة المعروفين .

من الضروري التفريق بين المعرفة النامية باستمرار ـ وهذا النمو مطلوب وضروري ، وهو شرط من شروط تقدم المعرفة ـ وبين القطيعة المعرفية الملغية للماضي المعرفي ؛ وبناء مدلولات تأسيسية جديدة للمعرفة ـ وهذه تصلح جزئيا لبعض نظريات العلم ـ ولكنها لا تصلح للمعرفة في قضايا الأنسنة ، أو مجموعة القيم ، أو المدركات المبنية على عالم الشهادة ، أي [مواضيع الإيمان الأساسية والضرورية] ولا يجوز أي محاولة للتجديد المعرفي تمحلا وبـهتانا ومنكرا وزورا ، { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً } ولا يصح التوقف المعرفي عند الماضي ، أو التحريف للمعرفة باسم هيمنة الكهنوت  .اعتماداً على ما سبق ، فإنَّ المطلوب هو نمو المعرفة ؛ وليس غير ذلك ؛ أي بقاء خيط متصل بين الماضي والحاضر ، وغير ذلك هو ضياع الهوية ؛ وعدم الإمساك بشرط التقدم .

يجمع الباحثون على أنَّ جميع الدراسات الموجودة في التراث عند المسلمين ؛ بدأت مقترنة بالقرآن الكريم ، واقتصرت هذه الدراسات بادئ الأمر على اللسان العربي ، إذ تنـزل به القرآن الكريم ، وهو كتاب غير حياة العرب تغييرا أساسيا شاملا ، فانتقل العرب من دور القيم الفردية والحياة القبلية إلى حياة الرحمة والهداية للبشرية جمعاء ؛ تصديقا لقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )(الأنبياء:107) .

أثارَ القرآنُ الكريمُ حركةً فكريةً كبيرةً في سائر أنواع المعرفة ؛ فلم تقتصرْ على نص القرآن وما يتصل به ، بل شملت علوم اللغة في مدلولـها الواسع ، وكانوا بحق مبدعين بـهـا ، فأبدعوا الـمعاجم كمعجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ، وقد أبدع الخليل بن أحمد نفسه كما هو مشهور علم العروض ؛ لمعرفة الشعر فكان فتحا أي فتح ، وجاء تلميذه سيبويه ليؤلف الكتاب في قواعد اللسان العربي ، وسار السابقون مسيرتـهم المعرفية عقدا أثر عقد ، شملت الكثير من حقول المعرفة المتعلقة بالإسلام : كعلم التوحيد ، منتجين منهجا خاصاً بعلم التوحيد ، هو علم الكلام والتفسير ، وأصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث ، وعلوم اللسان العربي ، بحيث وصفت علوم اللسان بأنـها مفتاح العلوم ، أو المتعلقة بالحياة ، كالتاريخ سيراً ومغازي ، والجغرافيا ، والفلك ،  وعلوم الحيوان ، والطب ، وعلم الطبيعة ، والكيمياء ، والنبات ، والهندسة ، والرياضيات ، فلم يبق حقل من حقول المعرفة إلاَّ ولهم باع فيه .

ظلَّ القرآن الكريم نبعا لا ينضب لحركة فكرية مباركة ، يتقدم الفكر سنة بعد سنة ، ويمسك المسلمون معرفيا بشروط التقدم ـ رغم تركيز الملك الجبري العضوض ـ منذ تولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة ، بالقيام على الإمام الحق ، بالسفهاء من العرب ، الذين لم يتمكن الإسلام في نفوسهم تمكنا قويا ، ومع  تباشير القرن الخامس الهجري حدث متغيران الأول : سيطرة السلاجقة الترك ( أي العجم ) الداخلين في الإسلام حديثا على الدولة ، ففي هذه السيطرة تم فصل الطاقة العربية ـ وهي طاقة اجتهاد وأداء ـ عن الطاقة الإسلامية وهي طاقة معاني ( طاقة العربية هي اللسان بما فيه من قدرة على تأدية معاني الإسلام ) والمتغير الثاني : هو صدور الوثيقة القادرية سنة 408هـ ،  وهي وثيقة منعت الاجتهاد في الفكر ( أي في قضايا الإيمان وقضايا المعرفة العلمية والإنسانية ) وظهرت الدعوة للتقليد المذهبي ، وقام السلاجقة أهل القوة العسكرية بقتل مفكري المعتـزلة بالدرجة الأولى وساندهم العلماء الـمتنفذون من أهل الفتوى جماعة الأشاعرة وأهل الحديث بالتصفية الجسدية للعامة لكل من هو من أهل التوحيد والعدل ( المعتـزلة ) تلك هي الحقائق التي قلبت وضع المعرفة رأسا على عقب .

إعجاز القرآن

القرآن الكريم هو كلام الله ، نزل به الروح الأمين ، بلسان عربي مبين ، على نبي الهدى محمد بن عبد الله ـ صلوات الله عليه ـ لهداية الثقلين ، يتضمن لفت نظر للكون المنظور للتفكر فيه للوصول إلى معرفة الله ، وبهذا النظر يصل المكلف إلى الإيمان ، وفي القرآن أيضا أمرٌ  ونـهيا وعليهما مدار الشريعة ، ويحوي الوعدَ بالثواب والوعيد بالعقاب ، أي يوم الجزاء ، وقصصاً عن أحداث وأمم ماضية ، وأخباراً عن عوالم غائبة كالجن والملائكة ،  وأموراً آتية ، مثل البعث والحشر والحساب وقيام الساعة ، كل ذلك في سبيل بناء الإنسان الأفضل والأكمل الذي يسمو في درجات الرقي.

تعني هداية الثقلين : وهما الإنس والجن ، هداية الإنس تمت ببعث رسول الهدى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تمت هداية البيان والدلالة لـهم عبر اتصال الرسول الحي مع البشر ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }(الأحزاب:45) وقوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }(الفتح:8) وأكد القرآن الاتصال الـحي بأنه مثل اتصال موسى بفرعون قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }(المزمل:15) وبعد شهادته على المبلغين وانتقاله إلى الرفيق الأعلى تحولت المهمة كحالة رسالية للأمة الإسلامية قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }(البقرة: من الآية143) .

أمَّا هداية الجن فقد تمت بغير الاتصال الحي قال تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } (الجـن:1، 2) وكل ما يقال خلاف ذلك من مزاعم ؛ بعد إعمال الفكر في قوله تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } تُرَدُّ درايةً لتعارضها الصريح مع القرآن الكريم .

المسلمون كلهم متفقون على كونه معجزاً ، ولكنهم مختلفون حول سر إعجازه ، وهذه الاختلافات محصورة في ثمانية أوجه في الزمن الكلاسيكي ، أي من النبوة إلى ما قبل نـهاية القرن الخامس الهجري ، إذ ترجح واستقر بعد ذلك رأي عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني ت 471هـ ، بعد ما استفاد من نظرية النظم التي بدأت تضح من الجاحظ إلى الحبائي ( أبو علي ) إلى القاضي عبد الجبار من كون الإعجاز يتجلى في نظم القرآن لا غير.{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }(الإسراء:9).

لقد تحدى القرآن الكريم العرب العاربة والعرب المستعربة أنْ يأتوا بمثل القرآن قال تعالى { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }(الطور:34) (م) فعجزوا جميعا عن الإتيان بمثله ، ولذلك قال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }(الإسراء:88) (ك) ولـهذا خفف لله عنهم التحدي ، فصاروا مطالبين أنْ يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }(هود:13) (ك) وإذ عجزوا أيضا ، تحول التحدي إلى الإتيان بسورة واحدة من مثله قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }(يونس:38) (ك) وجاء التحدي مرة ثانية في المدينة قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }(البقرة:23) (م) .

يتبين من هذه الآيات تحدي القرآن للعرب في زمن التنـزيل ، وهذا هو التحدي القائم إلى يوم الدين ، فلا يصح الزعم باكتشاف سر التحدي ـ بسبب ما يتكشف عنه العلم في مسيرته الصاعدة ـ فهذا فضلا عن عدم وجاهته ، فهو يستبطن عدم ظهور التحدي زمن التـنـزيل ، وهو زعم لم ينقل عن أحد من السابقين من المسلمين أو غيرهم ، ويبنى على هذا القول الخطير القول التالي وهو : " إنَّ معاصري النبي لم يؤمنوا برسالة النبي بدليل المعجزة ، إذ المعجزة غير معروفة لـهم " ، على أنَّ آيات التحدي ناطقة بأنَّ الإعجاز في منطوق نصه وليس في معانيه ، وانظر إلى هذه المباني في القرآن بعين الفاحص : ( بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) ( بِمِثْلِهِ ) ( بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ) ( بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه ) ( بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) فما طلبه الله منهم الإتيان بمثله نصا ، ولا يمكن حملها على غير النص ، فالمعاني تابعة للمباني ، قيل : قال الوليد بن المغيرة ـ بعد استماعه للقرآن : [ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإنَّ عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم الذي تحته ] .

سواء صح إسناد هذا القول للوليد بن المغيرة ، أم لم يصح فإنَّ أهل السليقة من اللسان العربي يدركون الفرق بين نص ونص بداهة ؛ وليس ببناء الدليل ؛ إذ الدليل من عمل أهل القاعدة والأصول ولهذا اختلف أهل القاعدة على أوجه الإعجاز .

إنَّ زعم من يزعم : إنَّ التحدي بالإعجاز بدأ مع أول يوم نزل فيه القرآن ،  بدليل أنَّه مطلوب مع أول نزول للقرآن الكريم الإيمان بالإسلام ونبوة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذا القول خطأ في فهم المعجزة ، وهي أي المعجزة لا تكون أصلاً ، بل هي جواب لمن أنكر رسالة النبي ، أمَّأ من قام عنده الدليل عقلا على الله ، وأقام عقله على التسليم بحكمته : إذ يخلق الخلق ، وأنه مطلوب منهم فعل الحسن واجتناب القبيح ، وأنَّ المخالف محاسبٌ ، وأنَّ من قال : إنَّهُ نبي ورسول فهم يعرفونه ويعرفون سيرته ، فهم يصدقونه بـهذه الدلائل ، فخديجة أو علي أو زيد أو هند بن أبي هالة ابن خديجة وربيب بيت المصطفى أو الملأ من قريش وعلى رأسهم أبي بكر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص   ؛ فهم ليسوا بحاجة إلى دليل الإعجاز ، ليؤمنوا بالشهادة الثانية ، من يحتاج دليل الإعجاز نوعان من الناس : معاصر للرسول مكابر ، أو من لم يعاصر الرسول من الأجيال الإنسانية التي تأتي في غير زمن الرسول ، والذي يتمعن دعوات الرسل ، يعرف أنَّ الرسل لا يبدأون رسالتهم بالتحدي ، فإبراهيم عليه السلام لم يقل : إنه نبي ، ودليل صدق دعواي ، أنْ تضعوني في النار وأخرج سالـما ، المعجزات يظهرها في واحدة من حالتين ، بناء على طلب من المرسل إليهم  أو لحفظ النبي حتى يؤدي رسالته ، وكلما كابر المكابرون تعددت المعجزات ، ففرعون كابر موسى ولهذا تعددت المعجزات قال تعالى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } (النمل:12) وأكثر بنو إسرائيل التبرم والأسئلة فتعددت المعجزات على يد موسى لهم .

فصل حول الإعجاز

حكى أبو عمرو الآدمي قال : قال أبو الهذيل : ورد كتاب المهدي في حملي من البصرة فحملت . واجتمع الناس لانتزاعي منهم ؛ فنهيتهم ، فبينما أنا في وسط دجلة ، إذ برجل قرب زورقه من زورقي فقال : إني رجل أشكل عليَّ أشياء من القرآن ، فقيل لي إنَّ بغيتي عندك ، فقد اتبعتك فاتق الله ! قلت : فما جنس ما أشكل عليك ؟ قال : آيات توهمني أنـها متناقضة أو ملحونة ، قلت : فماذا أحب إليك : أنْ أجيبك بجملة ، أو تسألني عن آية ! آية ، فقال : بل الجملة . فقلت : أتعلم أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،  كان من أوسط العرب ؛ غير مطعون عليه في لغته ؛ وأنَّهُ كان عند قومه من أعقل العرب ، لا يُطْعَنُ عليه ، قال : ألّلهم نعم . قلت : فهل تعلم أنَّ العرب كانوا أهل جدلٍ وبيان ؟ قال : اللهم نعم . قلت : فهل اجتهدوا في تكذيبه ؟ قال : اللهم نعم . قلت : فهل تعلم أنـهم تعلقوا عليه بالمناقضة أو اللحن ؟ قال : اللهم لا . قلت : فتترك قولهم مع علمهم باللغة ؛ وتأخذ بقول رجل من الأنباط ! فقال : أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأشهد أنَّ محمد رسول الله ، كفاني هذا ! وانصرف وتفقه في الدين ! .

معنى الإعجاز

الإعجاز من مادة ( ع ج ز ) ، جاء في لسان العرب لابن منظور : العجز نقيض الحزم ، عَجَزَ عن الأمر يَعْجزُ [ أي فتح كسرٍ ] وعَجزَ عَجْزاً فيهما  وتأتي في لسان العرب على معنيين : الأول الضعف وفقدان القدرة فتقول العرب : عجز عن الشيء أي ضعف عنه ، وتقول العرب : عجزت عن فلان ؛ إذا لم أقدِر عليه ،

محاولة التعرف على الوحدة الإعجازية

هذه دعوة للتعرف على معنى قول : (الوحدة الإعجازية ) ؛ من الثابت أنَّ القرآن تحدى العرب جميعا " بأنْ يأتوا بمثل هذا القرآن" وإذ كلمة القرآن تصدق على :

1.القرآن الكريم كله .

2.أي سورة من سور القرآن الكريم .

3.أي آية من القرآن الكريم .

4.أي جزء من أية ،آية تحت شرطين :

* الأول ليس حرفا من حروف المباني ـ أي حروف الأبجدية ـ  أو المعاني سواء كان من حرف واحد  ـ مثل الكاف ـ من قوله تعالى : [كَمِثْلِهِ] أو الثنائي مثل حرف من في قوله :  [مِنْ نِعْمَةٍ]  أو الثلاثي مثل لكن في قوله تعالى : [لَكِنِ الرَّاسِخُونَ] وغير ذلك من حروف المعنى فلا يتيسر للواحد أنْ يأتي بالحرف ويقول : هذا من القرآن ، بل يقال : إنَّ حروف القرآن هي حروف عربية اسماً وصوتا ، أو أنَّ يقال : هذا ورد في القرآن كحرف مبنى كذا مرة ، وكحرف معنى كذا مرة ، وفي السورة الفلانية كذا مرة وليس غير ذلك .

*  الثاني ليست كلمة مفردة ؛ سواء كانت اسما أو فعلا أو حرفا ، لقد ورد  بحث حرف المعنى مع  بحث حرف المبنى لاشتراكهما في الاسم ، وهذه الفقرة بحث في الكلمة اسما كانت أو فعلا ،  والمقصود الكلمة التي وردت في القرآن الكريم ، مثل : الله أو قال ، فلا يقال : هذه قرآن كريم ، سواء كانت كلمة مفردة ، أو كلمة مضافة ، أو شبه جملة مثل : يد الله أو فوقهم ، والضابط لكل ذلك موضوع التضمين ، فما يصح تضمينه هو قرآن ، وما لا يصح تضمينه ليس قرءاناً ، ويفهم من ذلك أنَّ القرآن من الآية : هو ما كان جملة اسمية أو فعلية ، دون أي تغيير في حالـها .

** والسؤال : أي من هذه الأربعة هو المعجز ؟ هذا سؤال يجب الجواب عليه من قبل النابتة الجدد ! وهو سؤال يتحدى هؤلاء المتألـهة الجاهلة معرفيا ؛ التي تثور عندها مشاعر التقديس حين تحديد الوحدة الإعجازية بأنـها السورة وليس أقل من ذلك  ؛ تماما هي مثل الدب الذي قتل الطفل ليحميه من ذبابة ! .

الوحدة الإعجازية : هل هي آية واجدة فتكون (الم)(البقرة:1) وهي آية و (يّـس) وهي آية أيضا ومثل (مُدْهَامَّتَانِ)(الرحمن:64) وغير ذلك آيات كثيرة فإنْ قالوا : لا . وهم لابد قائلون ، فكيف التفريق بين الآيات ؟ وما يحكم فيها بالإعجاز ؟ وما لا يحكم فيها بالإعجاز ؟ هل المعيار طول الآية ؟ أو تمام المعنى ؟ أو البلاغة والفصاحة ؟ أيها هو المعيار ؟ أيـها السادة النوابت ! والسادة المتألـهة ! !! فإن قيل إنَّ قوله تعالى : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه }لا يدل والنص لم يقل : إنَّ ما دون السورة ليس معجزا والنص في مثله { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } ينطبق على أي جزء  يوصف بأنه قرآن ، يُرَدُّ عليهم بأن الآية من القرآن قرآن ، وحتى الجملة من الآية هي قرآن أيضا ، ومع أنـهما قرآن كما مر ، إلاَّ أنـهما ليستا على وصف الإعجاز ، فالأعجاز هو للقرآن كله ، ثم لعشر سور من مثله ، ثم لسورة من مثله ، ومفهوم العدد هو مفهوم حصر ، لكن الكارثة هو في اعوجاج الفهم ، ذلك أنـهم يجهلون أسباب تسمية السورة بأنـها سورة ، ناظرين على الغالب إلى البلاغة في النص ، والبلاغة يقينا ليست الإعجاز ، فالسورة صارت سورة لخصائص لـها : أهمها الوحدة الموضوعية ، فكل سورة تفقد جزءا منها فقدت الوحدة الموضوعية ، وإنْ استبدلت كلمة مكان كلمة فقدت الناحية الجمالية في السورة ، فكل سورة ـ حتى حين العجز عن إدراك ذلك ـ هي مختلفة عن غيرها ، على أنَّ منطوق النص جعل الوحدة الإعجازية على الأقل هي السورة .

تحديد السورة في القرآن ليس تقسيما من الصحابة ، بل هو تقسيم من الله تعالى ، كما يتبين من معطيات تدوين القرآن ـ إلاَّ ما قيل عن سورة التوبة ، وهو قول ضعيف ؛ لا يصمد أمام البحث ، وسورة ، وتجمع سُوَراً ، والترجيح الواضح أنـها أي الجمع بغير همز ، فيكون معنى السورة المنـزلة من منازل الارتفاع ، وسمي سور المدينة سورا لحمايته ما يحويه بسبب ارتفاعه ، وفي هذا المعنى قول نابغة بني ذبيان في مدح النعمان بن المنذر ملك الحيرة :

أَلَـمْ تَرَ أَنَّ الله أعْطَاكَ سُورَةً     تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

يعني الذبياني في ذلك أعطاك منـزلة من منازل الشرف ، التي قصرتْ عنها منازل الملوك ، فهي سورة لارتفاعها وعلو قدرها بسبب خصائص هي عليها ، ولا يمكن تسمية سورة من القرآن بأنـها سورة ؛ إذا نقصت آية أو كلمة ؛ أو استبدلت بـها كلمة خارج القراءات المتواترة ، وقراءة الآحاد أو القراءات الشاذة ليست قرءاناً ، فهل أدركتم ذلك أيها السادة ؟ !.

يترتب على ما سبق : إمَّا الأخذ بنظرية الإعجاز الشامل ؛ ويتولد عنها وجود آيات معجزة ، وأخرى غير معجزة ، ويقال لهم ماذا تقولون في قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } أهي معجزة لوحدها ؟ وهم لا بد نافون لذلك ، فما هو بديلهم ؟ أو الأخذ بنظرية الصِّرفة كما هي عند ابن حزم وهي قوله : إنَّ كل كلمة قائمة المعنى ، يعلم أنـها إذا تليت من القرآن ، فإنـها معجزة ، لا يقدر أحدٌ على الـمجيئ بمثلها أبدا ، لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك ، في اليسير من القرآن وفي كثيره ، ويرد على ابن حزم قصة قول عمر أو غيره : تَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالقينَ  قبل نزولها في آية : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }(المؤمنون:14) لكن عند ابن حزم : إنَّ الكلمة متى ذكرت في خبر ـ على أنـها ليست قرءانا ـ فهي غير معجزة ، فابن حزم لا يعتمد التحليل اللغوي بل يعتمد منطوق النص على الظاهر وليس على المعنى .

فائدة للتفكر والاعتبار

أبن حزم يقول : بالصرفة ، وقوله قريب من الضرب الأول الذي قالت به المعتـزلة ، وهو قد رد حديث البخاري في حرمة الغناء والمعازف إذ أباحهما ، وهو قد قال بوفاة عيسى بن مريم ويعيده الله حيا عند نزوله ، وهو قد هاجم الأشاعرة هجوما لا هوادة فيه في كثير من مقالاتـهم ، وهو سليط بلسانه على أبي حنيفة ومالك ، ومع ذلك ليس محلا للهجوم من قبل أهل الحديث والأشاعرة والسبب أنه يري طاعة الحكام ، وإنْ ظلموا ، أو فسقوا ، وهذا يفسر حقيقة الهجوم على المعتـزلة ، ورغم خروج المعتـزلة من الحياة الفكرية للمسلمين ، ومع أنَّ الـمعتزلة طورت نظرية الصرفة إلى نظرية النظم ، إلاَّ أنَّ نار العداوة والبغضاء لا زالت موجودة عند جمع الإسلاميين ـ دون استثناء ـ بلا بصيرة ولا تبصر ، ولا حجة ولا دليل ، بل هم على موروث العمى ، وصدق الله تعالى إذ يقول في كتابه : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }(الاسراء:72) .

لـماذا لا زال الهجوم الأعمى يلفهم ؟ أعن قراءة فاحصة لمواضيع الاختلاف ؟ أو هو الموروث القاتل ؟ جاء في تعليق ( السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم ) وهو محقق النكت والعيون أي تفسير الماوردي عند ذكره الصرفة توثيقا لرأي قيل في الإعجاز في الهامش رقم (32) ما يلي :

(( وهذا الوجه ضَعَّفَهُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ووصفه بأنه أضعف الأقوال وهو قول أهل الكلام . وقد ردَّ هذا الوجه أيضا الإمام الخطابي )) ويشير إلى المرجع بقوله (( راجع الدقائئق (1/155) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للخطابي ص21 . يلاحظ أنه لم يشر إلى مرجعه عن ابن تيمية .

الإعجاز في النظم ليس غير

ما هو النظم : النظم في القرآن الكريم هو في الحروف في الكلمة وفي ترتيب الكلمات وفي تعاقب الجمل وشبه الحمل في الآية وفي ترتيب الآيات وفي مفتتح السورة وفي ختام السورة أي جملة ترتيب السورة بدءاً من أولها إلى آخرها ومن الطبيعي احتواء السورة على علو في الصور البيانبة ، والغاية في الفصاحة ، واشتملت حروف كلمات القرآن على نظم أدى إلى جرس بديع ونسق صوتي يثير الحس ويرهف الذوق ولذلك قيل الكلام في العربية على ثلاثة أضرب : شعر ، ونثر ، وقرآن ، والحقيقة أنه نثر جمع كل شروط النثر ، لكنه نوع من النثر فريد ، ما بين نثر مرسل كقوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ *وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * } ويقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ومثل آية الدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أو نثر غير مرسل أي تدخل عليه الفاصلة وهي جميع صغار السور ذات إيقاع سريع.


أوجه الإعجاز الكلاسيكية

الوجه الأول : هو البلاغة إذ الإعجاز فيها . وقد فسر الوجه الأول من القائلين به : بأنه اشتمال يسير لفظه على كثير من المعاني ، وضربوا مثلا لذلك قول الله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ )(البقرة: من الآية179) فجمع في كلمتين هما : ( الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) عدد حروفهما عشرة أحرف ، معاني كلام كثير ، وقد رد مصطفى صادق الرافعي في كتابه ( تحت راية القرآن ) على من ساوى بين قول العرب : [ القتل أنفى للقتل ] وقوله تعالى : ( الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ردا طويلا ، وشرح شرحا وافيا حقيقة الإيجاز في قوله تعالى : ( الْقِصَاصِ حَيَاة ) وقد أسس الرافعي رده على الإيجاز من جهة ، وعلى التمييز بين الحروف المتلائمة والمتنافرة بين النصين ، ورأى أنَّ في نص : [القصاص حياة]  طباقا ـ أي تحوي محسنا لفظياً ، أي جمعت العبارة القرآنية بين متضادين ، فجعلت الآية القصاص ـ وهو موت القاتل ـ حياة ، أي وصفته بضده ؟ . كان الظن أنَّ الرافعي جاء بقوله باجتهاد منه ، فإذا بالحقيقة أنَّ أمر التمييز بين القصاص حياة والقتل أنفى للقتل ، ورد عند الماوردي في النكت والعيون ، وعند الطبرسي في مجمع البيان . البلاغة ذات وجوه ملتئمة ، ربما يتيسر للواحد إماطة اللثام عنها ، فتتجلى على السامع ، أمَّا  نفس وجه الإعجاز فلا ، ومن هنا يستحيل أنْ تكون البلاغة هي الإعجاز .

من المعلوم عند القاصي والداني " أنَّ كلام العرب ـ قبل نزول القرآن ـ هو كلام بليغ شعرا ونثرا ، ويكثر فيه الإيجاز " ، وبالتالي تكون بلاغة القرآن مجردَ فرقٍ تَمَيَّزَ به القرآن ، والتميز لا يكون إعجازا ، على أنَّ في داخل النص القرآني تمايز على بعضه البعض ، فأي منها هو المعجز ؟ ومن المعلوم أنَّ التحدي هو تحدي تعجيز وليس تحدي تمييز . فالبلاغة إذن ليست هي الإعجاز .

الوجه الثاني : هو ما يظهر من فصاحة في نص القرآن ـ أي في البيان ـ وقد أجمع الفصحاء والبلغاء على المنزلة العليا للفصاحة في القرآن . حكى القاسم بن سلام ( كنيته أبو عبيد ) وهو مشهور بـهذه الكنية ، قال : إنَّ أعرابيا سمع رجل يقرأ : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )(الحجر: من الآية94) فما كان من الأعرابي إلاَّ أنْ سجد ! وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام ! وقال أيضا أي أبو عبيد : سمع رجلٌ رجلاً آخر يقرأُ : ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً )(يوسف: من الآية80) فقال السامع : أشهد أنَّ مخلوقا لا يقدر على هذا الكلام . وحكى الأصمعي " هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي ت بالبصرة سنة 216هـ قال : رأيتُ بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي تقول :

استغفر الله لذنبي كلـه      قتلتُ إنساناً لغيرِ حـلِّهِ

مثْلَ غَزَالٍ ناعمٍ  في دَلِّهِ      فَانْتَصَفَ الليل  ولم أُصَلِّهِ

فقلتُ لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أتعدُّ فصاحة بعد قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين َ)(القصص:7) . فجمع في آية واحدة بين أمرين ، ونـهيين ، وخبرين ، وإنشاءين ( يلاحظ أنـها تتكلم عن مستوى من الفصاحة وليس كلامها عن الإعجاز ) .

ومع إجماع أهل العربية على فصاحة القرآن ، ووضوح بيانه ، وهو في المنزلة العليا من الفصاحة ، لكن من المعروف وجود الفصاحة في كلام العرب ؛ فيكون القرآن فصيحا في مستوى أعلى من مستوى كلام العرب ، وهذا لا يدل على الإعجاز ، وإنـما يدل على التميز ، ومع ذلك فإنَّ الفصاحة تتفاوت في الآيات ، ولهذا لا يصلح هذا الوجه للدلالة على الإعجاز ، مثله في ذلك مثل الوجه الأول .

الوجه الثالث : هو الوصف الذي تنقضي به العادة ، بحيث قيل : إنَّ القرآنَ خارجٌ عن جنس كلام العرب ، فالقرآن مع كونه لم يخرج عن العربية مفردات وتراكيب ؛ فهو ليس نثرا على وصف العرب ؛ وليس شعراً لا على بحور العرب ؛ ولا على غيرها من ضروب الشعر ؛ ولا يمكن وصفه بأنه من جنس خطب العرب ، ولم يأت على أسلوب العرب بالنظم والرجز والسجع والمزدوج ، فلا يدخل في أي شكل من أشكال كلام العرب ؛ مع أنَّ كلماته وحروفه وأوزانه كلها مستعملة في نظمهم ونثرهم .

حُكيَ ( الفعل بصيغة التضعيف ) أنَّ ابن المقفع { هو عبد الله ، كاتب شاعر ، وأحد النقلة من الفارسية إلى العربية ، وهو فارسي الأصل ، نشأ بالبصرة ، واتـهم بالزندقة ، قُتلَ عليها من قبل أمير البصرة } : طلبَ أنْ يعارض القرآن ، فنظم كلاما ، وجعله مفصلاً ، وسماه سوراً ، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )(هود:44) . فرجع ، ومحا ما عمل ، وقال : أشهد أنَّ هذا لا يعارض أبداً ، وما هو من كلام البشر ، وكان فصيح أهل عصره ، فرغم فصاحة ابن القفع ونظم كلاما فصيحا إلاَّ أنه أدرك أنَّ موضوع الإعجاز ليس فصاحة القرآن فالإعجاز ليس هو الفصاحة .

الوجه الرابع : كون قارئه لا يكل ، وسامعه لا يمل ، وإكثار تلاوته تزيده حلاوة في النفوس ، وميلا إلى القلوب ، وغيره من الكلام وإنْ كان مستحسن النظم ، مستعذب النثر يُمَلَّ منه إذا أعيد ، ويستقل إذا ردد . وهذا القول لا يقبل على كل الوجوه ، وإنما يقبل إذا كان السامع مؤمنا به وعنده دفقة من المشاعر ، أو إذا كان تاليه يحسن التلاوة ، وسامعه يدرك المعاني ، أو يدرك الجرس ويمتلأ حسه به ، أو يدرك البلاغة فيه ، ومعلوم وجود بعض أهل المشاغبة من لا يستمع إليه ، بل وهناك من يصرح بأنه يكره سماعه ، من هذا البيان لا يمكن جعل هذا الوجه مقبولاً ، للحكم على أنَّ القرآن معجزٌ . على أنَّ قبول هذا القول ؛ يعني أنَّ الإعجاز هو في صوتيات القرآن الكريم ، وليس في حديث مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله ، وهو ما تبين سابقا أنَّ التحدي جاء في ذلك .

الوجه الخامس : ما حواه من أخبار الماضين ، وهذا يعني عند القائلين به : إنَّ في القرآن الكريم أخباراً عن أمور ماضية مما علموه ، أو لم يعلموه ، فإذا سألوا عنه ، عرفوا صحته ، وتحققوا صدقه ، كالذي حكاه عن قصة أهل الكهف : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً )(الكهف:9) وشان موسى والعبد الصالح : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )(الكهف:65) وحال ذي القرنين : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً )(الكهف:83) وقصص الأنبياء مع أممهما : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُون َ)(غافر:78) وما جاء في القرآن عن الأمم السابقة : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ )(الاحقاف:18) . وهذا الوجه مردود لسببين : الأول ، في التوراة قصص مثل هذه القصص ، فهل يقال بأنَّ التوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب التي ترد بـها أخبار عن ماضين كتب معجزة ؟ ؟ ؟ الثاني هو أنَّ سور القصص وهي سور محدودة ؛ هي الـمعجزة ؛ بل جزء منها هو المعجز ؛ وغيرها غير معجز ، وخطل مثل هذا القول واضح .

الوجه السادس : هو ما فيه من علم الغيب ؛ والإخبار بما يكون ؛ فينكشف صدقه وصحته ، مثل قوله تعالى عن اليهود في دعواهم أنَّ الدار الآخرة لهم : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وقال عنهم مباشرة كاشفا موقفهم : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }(البقرة:94، 95) فلم ولن يتمنى الموت واحد من اليهود ، ومثل قوله تعالى عن تحدي القرآن لـهم { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }(البقرة:33، 24) فلا زال التحدي بحرف النفي نفي الماضي ونفي المستقبل الدال على التأبيد ، فالصدق والصحة في الغيب والإخبار عما يكون موجودان في القرآن .وهذا الكلام أيضا عار عن الدليل ، فالقرآن وثق أنَّ سفر التكوين من التوراة تكلم عن موضوع الغيب : من خلق ، وتكليف ، وعصيان بالأكل من الشجرة ؛ بوسوسة من إبليس ، وهبوط الكل من الجنة ، وفي الكتب الأخرى من كتب أهل الكتاب ؛ يرد موضوع قيام الملكوت ؛ بأسلوب الإعلانات السرية : ككتاب إشعيا وحزقيال ورؤيا يوحنا اللاهوتي وغيرها ، وإذا قيل : بأنَّ الغيب هو الإعجاز ؛ فليعلن أصحاب هذا القول : أنَّ جميع الكتب السماوية بصورتـها الحالية هي معجزة أيضا ، وليعلنوا أيضا أنَّ الحديث كما هو في مدونة أهل السنة والجماعة هو أيضا معجز ؛ لوجود أخبار عن الغيب فيه ، وهكذا يسقط هذا الوجه أيضا .

الوجه السابع : جمعه لمعارف وعلوم لم تكن في العرب . قبل الدخول لقبول أو رفض هذا الوجه ، لا بد من تبين هذا القول للحكم عليه ، فالمطلوب تحديد هذه المعارف والعلوم الموصوفة بأنـها لم تكن في العرب ، غالبا المراد علم الأجنة وعلم الفلك ، لكن القدر الموجود منهما ومن غيرهما في القرآن ، لا يشكل تفسيرا علميا متكاملا من جهة ، ولم يكن غرض القرآن من ذكره إثبات الإعجاز ، بل وردت كمشاهد حية للتدليل على الله ؛ بمعرفة صفتين ذاتيتين له تعالى ، هما : كونه قادرا لا يعجز ، وكونه عالما لا يجهل ، والمسار العلمي الذي يتكشف الآن ، ويجد العلماء دقة القرآن في التعبير عن جزء بيسير من ظواهر العلم ، هو واحدة من خصائص القرآن الكريم النامية ؛ كلما نمت معرفة الإنسان ، وهي لا تغني وليست بديلا عن الأساس في الإعجاز ، وهذا القول بهذه الصورة مهد للقول بالإعجاز العلمي وهو قول أخذ يشيع كثيرا بين المسلمين .

تقوم هذه الأوجه السابقة وتتأسس على ما يلي :

1.الأوجه الثلاثة الأولى على نظام المباني أي على الشكل .

2.الوجه الرابع على الأثر النفسي على السامع مرتبط بإثارة مشاعر التالي أو السامع .

3.الأوجه الثلاثة الأخيرة على منظومة المعاني أي على المضمون .

من  المعلوم عدم وجود كلام يخلو من المباني ، أو المعاني ، أو الإثارة للمشاعر ، فالشعر البدوي النبطي أو غيره ؛ يحوي المباني ، والمعاني ، والإثارة لأهل البداوة ؛ لكون البدوي أدرك الصورة الشعرية ، أما صورة المباني ـ أو ما يُكَوِّنُ الـمحتوى ـ فليس هي الجاعلة لهذا النص البدوي صفة الإعجاز ، فالنص البدوي قد يكون على درجة من الإبداع ، ولكنه ليس معجزا يقينا . صفة الإعجاز هي صفة زائدة : عن المبنى ، والمعنى ، والإثارة ، وصفة البلاغة والفصاحة ، وجمال التعبير ، وهي على درجات متفاوتة في النصوص ؛ فيقوم عليها الحكم بالتمييز بين نص وآخر ، وليس إثبات الإعجاز ، كما ذكر سابقا .

الوجه الثامن : الصِّرْفة عند المعتـزلة وهي على ضربين.

1.الضرب الأول : أنـهم صرفوا من قبل الله تعالى عن القدرة عليه ، ولو تعرضوا لعجزوا عنه ، وأساس هذا القول هو ما يؤمن به المعتـزلة من كون الإنسان قادر بقدرة تمكينية وهبها الله للإنسان وليس بقدرة ذاتية .

2.الضرب الثاني : أنـهم صرفوا عن التعرض له ، مع كونه في قدرتـهم ، ولو تعرضوا له لجاز أنْ يقدروا عليه ، وأساس هذا القول ما يعلمه المعتـزلة من أنَّ اللغة ممكنون منها وحدث عجزهم عن موضوع من مواضيعها  .

وعلى طريقة جمع كل ما في البيدر دون تمييز ، رأي البعض أنَّ مجموع ذلك كله هو سبب وصف القرآن بالإعجاز ، بما فيها الصِّرْفة ، والكلام بهذه الصورة لا يبنى على تصور صادق لمعنى الإعجاز ، وإذا كان الإعجاز مجمع عليه عند المسلمين ، لكن سره بقي عصيا ، فكان أنْ قالت المعتـزلة الأوائل ـ الطبقة السادسة فما قبلها ـ بالصرفة ؛ إدراكا منها لاستعصاء معرفة سر الإعجاز ، وقد تأسس القول بالصرفة على ما يلي :

*من حيث المفردات : جميع المفردات التي استعملها القرآن دون استثناء هي عربية وضعا ، أو عربية تعريبا ، ويشمل التعريب أسماء الأعلام الأعجمية .:

*أسلوب القرآن في التراكيب ؛ هو أسلوب العرب ، لكنه جاء على أسلوب النثر ؛ دون أنْ يلتـزم أُسلوبا واحداً من أساليبه ، وهو ليس على أسلوب الشعر .  وهاتان الخصيصتان جعلا وصف القرآن بأنه عربي أمر حق .

*العرب في أيام نزول القرآن ؛ كانوا قد قطعوا جميع المسافات في نضج اللسان العربي ، فالقرآن نزل في لغة تامة النضج مكتملةٍ مفردات وتراكيب .

*أمام الحقائق الثلاث السابقة : وهي التطابق التام بين العربية عند أهلها ؛ وبين عربية القرآن . فكيف عجز العرب ـ وهم أهل الكلام فيها على السليقة ، وهم واضعو العربية مفردات وتراكيب ـ عن الإتيان بمثله  ؟ .

حير الموضوع هذا أهل الألباب ! أي أهل صنعة العربية أصلا ، فقد أقروا بالعجز عن الإتيان بمثله . لذلك فأنَّ التفسير بالصرفة ـ قبل التمكن من مفتاح العلوم في علومه : الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض وأصول الاستدلال ، هو التفسير الصحيح للإعجاز .

وإذ اكتمل مفتاح العلوم في نـهاية القرن الرابع الهجري ؛ تطورت نظرية الصرفة تطورا طبيعيا نحو نظرية النظم على يد المعتـزلة ، ليأخذها عبد القاهر الجرجاني ؛ ويضعها في كتابه دلائل الإعجاز ، وهو الكتاب الذي صار عمدة الإعجاز ومحل التسليم ؛ منذ وضعه عبد القاهر حتى عقود قليلة خلت ، فسيد قطب القتيل ظلما عام 1966م في كتابه التصوير الفني في القرآن جعل نظرية النظم أساسا .

لكن في هذا الزمن ظهرت نابتة جديدة ، بسبب التقدم العلمي ؛ ولإدخال النص القرآني على الحوسبة ، ولضعف هذه النابتة في مواضيع التراث ؛ فهي في حالة شلل وعجز عن تطوير مفاهيم التراث ، وإذ أجاز نظام التعليم الأكاديمي تقديم أطروحة في موضوع جزئي من القرآن ؛ أو عنه ، صار عين الموضوع الأكاديمي الجزئي بديلا عن الدراسة العامة في موضوع أعجاز القرآن ، ولـهذا ظهر في الساحة من يقول : الإعجاز البياني في آيات كذا وآيات كذا ، وكان الأولى به أنْ يقول الخصائص البيانية في آيات كذا ، وظهر في الصحف اليومية في صفحة الحيض والنفاس والطهارة ، وهي صفحة تظهر كل صباح من يوم الجمعة ، أي اليوم الذي يقل القراء فيه ، يظهر في تلك الجرائد كتابات عن الإعجاز ، هي من مواضيع بلاغية جزئية .

إنَّ الـمواضيع البلاغية الجزئية ؛ فضلا عن أنـها بحث من أبحاث البلاغة ، فهي ليست حلا للإعجاز ، وإنـما هي حالة تذوق من شخص لأمر بلاغي ، قد يكون في آية ؛ أو في آيات من سورة ؛ أو من سور مختلفة ؛ أو في موضوع ، حسب ذوق المتذوق ومرانه على التذوق ؛ فيتحول أمر الإعجاز من إعجاز إلى تحليل بلاغي لغوي ، والتحليل البلاغي اللغوي ليس موضوعا جماعيا ، من هنا يصبح  الإعجاز محكوما بالرؤية الفردية ، مع أنَّ الإعجاز هو الأساس الوحيد للجملة الثانية من إعلان الدخول إلى مسمى الإسلام { أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله } وعلى الحملة الثانية تبنى حقيقة الإيمان من الناحبة العملية، وهذا التحول يشكل كارثة ؛ في زمن هجوم أهل التغريب على اللسان العربي ، وعلى منظومة المعاني في القرآن الكريم .

نظرية النظم تطوير لنظرية الصرفة وليس نقضا لـها

المنظومات الجديدة للإعجاز

1. النظرية العلمية

2. النظرية العددية

-------------------------------------------

كتاب غير مكتمل ...........