خطاب الى النخبه
بسم الله الرحمن الرحيم
خطاب إلى النخبة
المغالطات في بناء الوعي السياسي
في الواقع العربي هذه الأيام أمرٌ ملفتٌ للنظر هو كثرة المنتديات وكثرة الأنشطة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية على شكل محاضرات ومؤتمرات وعقد ورشات عمل يتبعها غالباً حوارات ومساجلات وإعلان مواقف وهي توثق بمختلف أنواع التوثيق ومع تزايد حمى النشاط الا أنه لا يرى أية بارقة أمل فيها.اكثر من يحضر هذه الأنشطة هم من الطبقة او الدرجة او الشريحة، التي سبق وان مارست السياسة، او تحزبت بهذا الحزب او ذاك، فهي ليست بعيدة، وغير معفاة عن النتائج، والأعمال السياسية التي يتعايش معها المواطن الجماهيري، ساكن أحياء الفقر، من بائع خضار، إلى سائق سيارة، إلى عامل في قطاع الإنشاء، إلى معلم في المرحلتين الإلزامية والثانوية، إلى عامل بكراجات تصليح السيارات، إلى عامل بالمطعم او المقهى، إلى العديد من الشريحة الاجتماعية، شريحة الدرجة الأخيرة في سلم الشرائح الاجتماعية.
هذا المواطن يتعايش الآن مع همين : هم العيش، وهم الوطن، وما يجري على ساحته من أمور غير معقولة، وساحة الوطن ليست قطراً من الأقطار، بل هي أوسع من ذلك بكثير، فهي العالم العربي، والعالم الإسلامي، بل والأشقياء في العالم كله !
منذ أن تولى أصحاب المراكز الاجتماعية المرموقة، التنظير السياسي، والتفكير، واتخاذ المواقف نيابة عن الشعب، الذي هو في الحقيقة الشريحة الاجتماعية الأخيرة، أو الدرجة المتدنية في السلم الاجتماعي، وتبادلت النخبة مع اهل السلطة، مواقع الحكم، فالكثير منهم شارك في الحكم، وانتفع من الحكم على هذا الشكل او ذاك، سارت الأمور إلى التردي وبالمناسبة فلا زالت النخبة في محل الانتفاع. لكنَّ البيانات الصادرة عن النخبة كقادة للتفكير، والعمل السياسي، كانت دائما تقلب الحقائق، فتجعل السير إلى الوراء، سيراً للأمام، تخدع الجماهير الساذجة، وتمارس عليها التضليل السياسي والعمل العبثي.
وإذ هوت الأمة بفضل النخبة إلى الحضيض الأحط ، وأصبح الأمر مكشوفاً، بحيث لا يمكن للجماهير الساذجة، أن تقبل بعد هذا التكشف أيَّ محاولة للتضليل، أعادت النخبة نفسها على أنماط، وأشكال جديدة، مُنتديات وجمعيات، وأحزاب علنية وأعمال معارضة. حتى لا تفلت الأمور من يدها ويد شركائها “اهل السلطة” وارتفع صوت النداء إلى الحوار، وسماع الرأي، والرأي الآخر ولكن الحقيقة ان المطلوب هو سماع رأي النخبة فقط لا غير، فالنخبة تضيق ذرعاً بمن لا يشاركها الرأي، ولا يصفق بحرارة لخطابات النخبة الحماسية، التي هي مجردُ حالة وصف، وهجوم على الواقع، دون أية علامة تؤشر للخروج من التيه، فالمراد هو البقاء بالتيه، دون ان تُوجدَ أيةُ آمالٍ للتغيير. يُدْعى عادة شخصيته قومية أو إسلامية، أو تقدمية هكذا تقول هي عن نفسها أو يقال عنها، لان يلقي محاضرةً، حول أمر ثقافي او فكري او سياسي وعادةً هو شخصية معروفة جداً مارست العمل السياسي والثقافي، وربما هي شخصية ذات شعبية معلومة لكل من يسكن العواصم والمدن الكبرى، يختار عنواناً للمحاضرة هو ”الصهيونية “ او الأحزاب السياسية او الديموقراطية او المرأة او غير ذلك.
المحاضرات كلها مجرد وصف للممارسات العربية في السياسة المحلية أو في قضية المرأة أو في الارتماء والتسارع للتطبيع مع اليهود او تهافت الحاكم الفلاني على اليهود وعلى الصلح مع اليهود واللقاءات المستمرة بين اليهود وبين الحكام والتواصل عبر الرسائل والود الذي يحويه مضمون الرسائل. وربما يكون عكس ذلك تماماً فَيُمدح الصلحُ مع إسرائيل وأننا في سبيل اقتصاد واعد او يَتَمَدَّحُ بالديموقراطية او بالتقدم الغربي، هذه كلها معلومة للعالم كله وهي كلُّها ليست في محل الرضا من الجماهير وان كانت الجماهير تقف الآن مسلوبةً النُهى فاقدةً للقدرة عاجزةً عن الفعل، تشتم سراً وتبكي دماً، او تسكت سكوت الخائفين، او صمت المتألمين.
وقد ينتزع المحاضر التصفيق المستمر، مع انه لم يتكلم عن درب او وسيلة او خطة او آليَّةِ عمل او استعمال أداة او شرحِ أيةِ فكرةٍ تنقذ الجماهير من الهاوية ! .بل انه يمارس اكثر أنواع التضليل السياسي خداعاً، حيث يتوجه بالقذائف الكلامية ضد الأمور التي لا ترضاها الجماهير، مُكَبِّراً حجم إسرائيل، وموجها إليها وحدَها كلماته وجمله، واصفا إياها بالقدرة والتَّمكُّن ، وأنها دولة فاعلة من خلال ذاتها، لا من خلال داعميها ومؤيديها، فالمسألة عند المحاضر هي انتزاع التصفيق، لأنه قال وبصراحة ما يتألم منه الناس، او بالحقيقة النخب العاجزة عن التنظير والفعل، فالذين صفقوا إنما صفقوا لأنفسهم، دون مردود لخطبة المحاضر او تصفيق المهزومين! هذا في حالة كون المحاضر يوصف بأنه من المعارضة. وهذا المعارض عادةً ما يكون مصنوعاً انتقل من التعتيم إلى دائرة الضوء من خلال أوضاع مصنوعة للحكومة المحلية او حتى للنظام والدولة دور في إبرازه بأنه المتحلي بالإخلاص الخالص والعمل الدائب المستمر في سبيل رفع المعاناة عن هذه الأمة المنكودة. لكن المشكلة ان المعارض والمؤيد سيان في كونهما في حالة توادد فما ان يلتقي المعارض والمؤيد الا والسلامات الطيبات والتحيات المباركات هي السائدة بينهما. واذا ما جاء الأجل لمعارض او لمؤيد تسارعت النخبة بقضها وقضيضها مؤيدها ومعارضها لتشكل لجنة تأبين وعادة ما تبلغ الأسماء المئات ممن هم في محل الإشارة بل يظهر التوادد منذ الوفاة فإعلانات النعي من العديد من شركات ودور التمويل والاستثمار والأشخاص وعادة يشار إليه بأنه التقدمي الأصيل المكافح ضد رأس المال.
ان جماهير الأمة ليست بحاجة إلى خطابةٍ وجمهور يصفق، وانما هي بحاجة إلى تعميق الحس المعنوي العام (بالكارثة والخطر) والتفكير في كيفية إبعاد الكارثة، واتقاء الخطر، وبحاجةٍ إلى كيفية عملية لتنفيذ هذا التفكير، مع جدية في العمل، وتعيين الوسائل والأساليب، والأدوات والآليات، للعمل الجاد الدؤوب، وان يعمل لتحقيق غاية قريبة، ثم غاية قريبة أخرى، حتى الوصول إلى الغاية المطلوبة، وهي زوال دولة إسرائيل زوالاً تاماً. وزوال هيمنة أمريكا وقيام الوحدة وتعيين الهوية.بدون مثل هذا، يحدث الدوران في الحلقة المفرغة، فلا تُعلمُ بدايتها ولا تُعلم النهاية، وكيف الوصول اليها، والنخب والسلطة كلاهما تريد للجماهير ان تدور في الحلقة المفرغة، فالسلطة والمعارضة وجهان لعملة واحدة، وظيفة السلطة القمع حين اللزوم، وبث الرعب بين الجماهير (العامة الرأي العام)، الذي هو هاجس السلطة، أية سلطة، ومهما كان شكلها او نظامها، ووظيفة النخبة تضليل الجماهير، على مستوى التفكير او على مستوى الفعل والتاريخ المعاصر منذ 1945-1999 م يكشف هذه الحقيقة، بصورة جلية واضحة، وإلاَّ كيف يمكن تفسير الوصول إلى محطة التعاون؟ مع الأمريكان ضد العراق، ومسار مدريد واشنطن، أوسلو واشنطن، القاهرة، غزة أريحا أولاً، ومسار واشنطن وادي عربة، طبريا الباقورة ، ومسار واشنطن دمشق – تل ابيب، الخ قائمة هذه المسارات.كيف يستطيع صانعو الفكر وقائدو الأعمال السياسية تبرير سكوتهم عن مسار سوريا مع انه أهم المسارات فعدم توقيع الصلح مع سوريا، يعني فشل عملية السلام كلها، والأرض والسماء تشهد، ان سوريا سائرة في درب السلام، وأنها واصلة إلى السلام لا محالة. كيف يبرر المعارضون احتضانهم لسوريا واحتضان سوريا لهم، وما مصيرهم! يوم ان يوقع الأسد الصلح مع جيرانه والسلام مع أبناء عمومته أسد ضرب المخيمات وحمص وحماة وحلب، أسد حفر الباطن، أسد سجن الرفاق أطول مدة شهدها تاريخ سجون الرفاق.
معذرة أيتها النخبة الكريمة! ان كنتم ترون أن هذا هو حالة من الهذيان لكن ما تحتاجون لِتَذَكُّرِهِ هو ما يلي (مجرد عيِّنات) كثرٌ هُم المنتمون للتسليم بالواقع ممن كان لهم دور التنظير:
(1) موقف القومي حتى العظم الأستاذ الجامعي احمد الربعي في الكويت كعينة تكشف معنى المعارضة ومعنى القومية والقوميين!
(2) موقف ام ناصر السيدة ليلى شرف القومية حتى نخاع العظم من معاهدة وادي عربة!.
(3) موقف السيد فهد الفانك البعثي العربي السابق، إذ نقل التلفاز الأردني صورته مصافحاً لرابين في وادي عربة، ولا زال اكبر داعية للقطرية، والسير مع الغرب، والركوب بقطارالسلام.
(4) موقف رابطة الكتاب القومية الماركسية (الشركة القومية الماركسية) ورموزها الدكتورخالد الكركي: المهندس سمير حباشنه،. الصحفي النائب محمد داودية ، وسلطان الحطاب، وصالح القلاب، وحمادة فراعنة، والدكتور إبراهيم بدران. (إن كان من الرابطة أو لم يكن).
(5) المرأة التي لا زالت لها كلمة في المحافل الأدبية والفكرية والسياسية زليخة أبو ريشة وهي التي تشهر هجوماً متواصلاً على هذه الأمة وتستعمل مصطلحات غربية تسقطها على هذه الأمة نفسها مثل الذكورية والجنسوية والأبوية وأخيراً الجندرة مع أنها راقصت اليهوديات في المغرب ومع هذا فهي تحظى باحترام يفوق احترام بائع الهريسة في جنين (غير معروف اسمه)، الذي قدم كلَّ القروش، التي جمعها من بيعه الهريسة في يومه، سنداً لمصر أيام العدوان الثلاثي، وترك أولاده يومها في مستوى عيش اقل كثيراً من أيامهم السابقة !.
(6) موقف شيوخ الإسلام وآباء النصارى العرب الآكلين على موائد السلاطين، والمادحين للسلاطين، والمهنئين لهم بالأعياد العربية والقومية والوطنية، وموقف الإخوان المسلمين، حمائم او صقور ينتمي لهذا الموقف !.
السادة النخبة الكريمة
لابدُّ من مصارحتكم أن المسألة جدُّ خطيرة وأن ممارستكم للسياسة بشقيها النظري (المقالات والخطب والتنظير) او الجزء العملي منها ومحاولة اتخاذ مواقف منها أنما يجري وفق نظرية التسلية في الحديث ومنع العمل الجدي للتغيير فصورة المجتمع المطلوب والعمل للتغيير حالات مبهمة والمطلوب الوضوح في أمر الوحدة والتحرير من الهيمنة وتعيين الهوية بدون ذلك يكون المطلوب استمرار التوهة والضياع وحراثة الأرض اليباب.
أيها السادة
في الوعي السياسي العربي لمشكلة فلسطين والوجود اليهودي فيها يُوجدُ نظريتان لتفسير الحوادث.
الأولى وتكاد تكون السائدة، وهي ان لليهود سيطرة على العالم كله وان اليهود في فلسطين هم مجرد مشروع صهيوني، يعتمد على اليهود فقط والدين اليهودي، وإن الغرب الذي يساعدها، إنما يساعدها بسبب من سيطرة اليهود العالمية، ولما لليهود من قوة داخل تلك الدول، وللخداع اليهودي، وان الغرب حالة محايدة، او متحيزة لليهود بعض الشيء، ولهذا لجأ العرب إليه لحل مشاكلهم.
الثانية ان دولة اليهود دولة ذات وظيفة، ولهذا فهي دولة معتمدة على الغرب، مستندة على قوة الغرب الاستعماري الديموقراطي الليبرالي، وظيفة هذا الكيان عند الغرب وظيفة سياسية، هي منع هذه الأمة الخيّرة من الوحدة والتحرر من الهيمنة الأمريكية الغربية، ومنع الأمة من إعادة اكتشاف هويتها، وبناء حضارة وثقافة تجعلها تتسم المكانة اللائقة بها.أن أصحاب النظرية الاولى وهم يدعون للتبعية للغرب أي بنظام مفاهيمه والادعاء ان هذا التغريب [الذي يقدم وفق نظام المغالطات] بأنه الكفيل بإنتاج التحرير والتقدم وزوال الاستبداد والتسلط . وهو في الحقيقة دعوة لتنظيم نظام الاستبداد والتبعية والتخلف فالمسألة تداول الحكم مع الشركاء الوجه الآخر (السلطة).
إنّ أصحاب النظرية الاولى يجعلون القزم عملاقاً، ويجعلون قيطان الحذاء الذي تنتعله الولايات المتحدة شيئاً مهما. ولهذا ولأنهم لا يعلنون ان الغرب هو العدو الاول والرئيسي، ولولا الغرب ما قام لليهود وجود. تراهم يتسلمون من الغرب القروض والإعانات والتوجيه السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري والاجتماعي وتمارس المعارضة التمدح بالغرب، فتحولت مصر وسوريا والأردن ولبنان وكل الكيانات العربية، إلى مجرد كيانات كرتونية، لا تملك من مقومات وجودها إلا عدم وجود من يهدمها.وبصراحة الكل سيوقع ويطبع، ما لم يتغير التوجه حالاً، فتعلن العداوة الصريحة للغرب، وان الكفاح السياسي المنتج والذي يزيل دولة اليهود زوالاً تاماً هو درب التحرير وهو درب النهضة وهو درب التقدم وهو درب الوحدة فانه يتجلى بثلاثة محاور لا غير.
(1) افتراض أن الأمة او المجتمع الطامح للنهضة هي أمة ومجتمع له عمق تاريخي فمعرفة العمق التاريخي وتحديده هو طريق النهضة وليس الانقلاب عليه وإشباعه نقداً وتجريحاً.
(2) الاعتراف بأن الانحطاط قد اعترى حضارة الأمة ولهذا لابد من تحديد زمن الانحطاط وسببه أي وجود إدراك موضوعي لجملة الأسباب التي أعاقت استمرار الأمة في إنتاج حضارتها أي معرفة الدواعي التي تدخلت وقضت على ديناميكية الحضارة وأي قول بأن الانحطاط لم يَلُمَّ بحضارة الأمة أو انه تم تجاوزه فانه يلغي إشكالية النهضة.
(3) التسليم التام بفشل محاولات النهضة السابقة جميعها وترك التغزل بمشاريع نهضوية مهماً كانت وحصر مسؤولية الانحطاط بعلاقة ثنائية بين أنا [الأمة] التي ينظر اليها أنها بخير وبين الآخر (الاستعمار الغربي) ومع إلقاء اللوم دائماً على الاستعمار الغربي بجعله مسؤولاً عن إعاقة تقدم الأمة الا ان النفاق الاجتماعي بين أعضاء النخبة رغم اختلافهم في المواقف هو السائد فأي شخصية من النخبة أعلنت موقفها وانحيازها للغرب وإسرائيل لا تزال تلاقي منتهى الاحترام والسماح لها بان تكون فارسة الحوار.
وبعد لكم فائق احترامي وتقديري
مع تحيات أمين نايف ذياب
الداعية لاعادة بناء العقل الإسلامي على أساس فكر المعتزلة