علم الكلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الجمعية الفلسفية الاردنية
محاضرة
علم الكلام
امين نايف ذياب
افتتاحية
حمداً لله تعالى، الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان* الشمس والقمر بحسبان* والنجم والشجر يسجدان* والسماء رفعها ووضع الميزان* ألا تطغوا بالميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان* والأرض وضعها للآنام* فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام* والحب ذو العصف والريحان* فبأي آلاء ربكما تكذبان*.
رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري* واحلل عقدة من لساني* يفقهوا قولي *.
الحمد كل الحمد لله تعالى، الذي لا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، تقدست ذاته، ودلت عليه آياته، وعظمت آلاؤه، وتوالت نعمه على الانسان.
شكراً للجمعية الفلسفية الاردنية، ممثلة بالصديق الودود، رئيس الجمعية الدكتور هشام غصيب، ولكل عضو فيها، وبعد :
طلب الي القاء محاضرة، وكان الدكتور هشام صارماً، فحدد موضوعها بدقة، فجعل الموضوع حجراً محجوراً، ليتعذر الخروج ذات اليمين وذات الشمال، والموضوع الذي اقترحه فقبلته هو علم الكلام دون أية إضافة.
محاور المحاضرة
بداية لابد من تقرير ان المحاضرة ستعالج الموضوعات التالية دون إسهاب:
١- تعريف علم الكلام من خلال موضوعه ومنهجه والغرض منه.
٢- بيان أصالة المنهج الكلامي والتدليل على افتراقه عن منهج الفلسفة اليونانية.
٣- علاقة علم الكلام بالعقل.
٤- نشوء علم الكلام على يد المعتزلة دون غيرهم، وكل عالم كلام بعدهم هو عالة على المعتزلة.
٥- علم الكلام والإشراقات المشرقية.
٦- علم الكلام والمنطق اليوناني الأرسطي.
٧- علم الكلام ومثالية المعرفة.
٨- علم الكلام والمادية العلمية.
٩- انحراف علم الكلام منهجاً وقضايا اختلاطه بالافكار الفلسفية اليونانية بعد منع المعتزلة من ممارسة انتاج المعرفة.
١٠- الضرورة الماسة لعلم الكلام اليوم كما هو الامس.
ومع التحديد الواضح لمحاور المحاضرة إلا ان طبيعة المعرفة تتداخل على بعضها، بحيث لا يمكن إقامة سدود او تخوم تفصل المعرفة عن بعضها.
مقدمة ضرورية
لو سأل سائل شخصاً بسيطاً متعلماً، ليس اقل من التوجيهي، ما هو علم الكلام ؟ لكانت الاجابة: كثرة الحكي، اوالثرثرة، او السفسطة، او الجدل الفارغ، او – وهذا سيكون جواب دارسي الشريعة - كلام اهل الضلال والبدع، ويكتشف السامع ان علم الكلام قد ضاع معناه ومبناه عند المسلمين، مع انه علم خاص بهم دون غيرهم، اليهم نسبته، ولا ينسب الى غيرهم، فلماذا كان أهلوه اكثر الناس جهالة به؟!.
يعود ظهور علم الكلام في بداياته الى القرآن الكريم إذ حوى مفردات هي: النظر، التفكير افعال مشتقة من كلمة العقل، الفهم، التدبر، إقرأ، الجدل ، الحوار، يستبطونه، الحق، الباطل، ما عليه الآباء في موضع التنديد، وهذه كله مفردات متعلقة في المنهج.
ومن حيث موضوع هذه المفردات فهو: الكون في مظهره الفيزيائي، والبيولجي، والفلكي، والآثار للماضين، والمدونات بالقلم رافضاً اساطير الاولين.
ومن حيث الدليل على هذه المواضيع وجدت مفردات المشاهدة، والحجة، والبرهان والسلطان وغيرها. وبلغ النبي مألكته، وكان علي فاهما لدقائقها، فقام بأولى محاولات التأصيل، ولا ينفي ذلك الا جاحد، تلقى فهم علي حشد، ولكن محمد بن علي من ٢١-٨١ كان مجلياً فيه ومن ابرز تلاميذ محمد هذا ابناه : عبد الله الملقب بأبي هاشم والحسن، وبهما وخاصة عبد الله تقدمت هذه المعرفة، فالحسن هو شيخ او استاذ غيلان الدمشقي، الذي كان مآله القتل مع تلميذه المدعو صالح في زمن هشام بن عبد الملك، إذ رآه ينادي على اموال الظلمة ومتاع الخونة بالمزاد العلني، بعد ان اطلق يده في ذلك عمر بن عبد العزيز.
عبد الله بن محمد بن علي الملقب بأبي هاشم
٠٠ - ٩٩ هــ ٠٠ - ٧١٧ م
واضع علم العروض هو الخليل بن احمد الفراهيدي ت ١٧٠هــ.
واضع علم قواعد العربية هو سيبويه عمرو بن عثمان ت ١٨٠هــ.
واضع علم اصول الفقه هو الشافعي ت ٢٠٤هـــ.
لقد وجد قبل هؤلاء عبد الله بن محمد بن علي وهو بحق واضع علم الكلام ت ٩٨هــ.
إن هؤلاء المبدعين الأربعة هم عدليون أي معتزلة.
أبو هاشم
نبذة منقولة من كتاب الاعلام.
هو احد زعماء العلويين في العصر المرواني، كان يبث الدعاة سراً بين الناس، ينفرهم من بني امية، علم سليمان بن عبد الملك بخبره، فدس له من سقاه السم، فلما احس بالسم عدل الى الحميمة، وكان يسكنها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس واولاده، فصرف اليه شيعته واعطاه كتباً كانت عنده ، وافضى اليه بأسراره وتوفي بالحميمة .
لابد من الاشارة الى ان البحث لن يتابع ابي هاشم في حركته الا بمقدار ما ترتبط بعلم الكلام وهذه جمل منقولة من ترجمته بتهذيب التهذيب، لوضعها في دائرة الضوء.
قال ابن سعد: كان صاحب علم ورواية، وكان ثقة قليل الحديث.
قال ابن عبد البر: كان ابو هاشم عالماً بكثير من المذاهب والمقالات، وكان عالماً بالحدثان وفنون العلم.
يرد في طبقات المعتزلة عن سند المعتزلة قول ابي اسحق ابراهيم بن عياش قال: وسند المعتزلة لمذهبهم اوضح من الفلق، إذ يتصل الى واصل وعمرو بن عبيد اتصالاً ظاهراً شاهراً وهما اخذا عن ابي هاشم، وهو قد اخذ عن ابيه محمد بن علي، وقد تربى واصل في بيت محمد بن علي، وفي هذا البيت تعلم وتخرج، ومحمد بن علي اخذ عن ابيه علي بن ابي طالب ومشهور اخذ علي عن نبي الهدى عليه السلام.
لابد من تحليل هذه الجمل فما هو معنى (كان عالماً بكثير من المذاهب)؟ كلمة المذاهب تطلق على مدرسة معينة في الفروع، واقدم المذاهب هو مذهب ابي حنيفة ت عام ١٥٠ هــ فهذا يعني ان المراد من كلمة المذاهب هي معرفة مذاهب المعرفة، وليست مذاهب الفروع والمعلوم ان نتائج المعرفة المقالات وليس الاحكام ولذلك ورد انه عالم بالمقالات، وهو فوق هذا عالم بالحدثان، أي بالمفهوم الحاضر عالم بحركة التغيير في المجتمع أي سنن التغيير، وكلمة الحدثان يمكن ان تطلق على احداث التاريخ، ويمكن ان تطلق ويراد بها احداث المستقبل أي معرفة احاديث الفتن والملاحم، لكن قول الزبير بن بكار: كان صاحب الشيعة فصرف الشيعة لمحمد بن علي بن عباس، وقتل سليمان بن عبد الملك له بمكيدة مدبرة، وكونه شيخاً أي استاذاً لواصل بن عطاء وزيد بن علي وهو من تطلق عليه الزيدية الامام الثائر الشهيد ت عام ١٢٢ هــ والمعلوم ان زيد والزيدية ترى ان مستحق الامامة هو العالم التقي الذي يشهر سيفه في وجه الظالمين، فهذه كلها تفسر معنى كان عالماً بالحدثان، وإذا اضيف الى ذلك ما يرد في ترجمته من كونه ثقة قليل الحديث، فكون قليل التحمل فلا ينقل احاديث الفتن والملاحم فالحدثان هي سنن التغيير، ويضاف الى كل ذلك الى ان فرق الشيعة الثلاثة لاتنتحله.
يفهم من تلك الصورة التاريخية، ان علم الكلام هو منهج معرفي هادف، يسعى لبناء عقل الامة بهدف التغيير ولو بالثورة، وهذا ما سار عليه واصل من ارسال دعاته في الآفاق، أي في اقطار العالم الاسلامي، لبناء الوعي واحداث التغيير، فعلم الكلام هو لبناء وعي عام وعمل للتغيير ولو بالثورة،وتدل القراءة لأحداث الثورة العباسية انها ثورة المعتزلة طلباً للعدل والرشد، ولكن العباسيين - وهم قادة ميدان فقط لأسباب تنظيمية ظرفية - حرفوا الثورة عن خط سيرها بواسطة الجند الخرساني.
المحور الاول
تعريف علم الكلام
لايمكن تعريف علم الكلام من خلال قاموسية الكلمتين، وإنما يمكن تعريفه من خلال موضوعه، ومن خلال منهجه، ومن خلال الغرض منه، اما غايته فقد ابانت عن وجهها القراءة السابقة، التي تمحورت حول ابي هاشم، قتيل سم سليمان بن عبد الملك.
علم الكلام من حيث موضوعه : هو المعرفة المتعلقة بإدراك موضوع الايمانيات اي الايمان العقلي بالله تعالى بإثبات اصلين عقليين هما التوحيد والعدل وبالنبوة والشريعة على الجملة أي اصل الشريعة وليس مفردات احكامها وبالجزاء في اليوم الآخر.
علم الكلام من حيث المنهج : هو تأسيس الاستدلال على يقينيات عقلية وهي :
١- المدركات الحسية والمعتزلة لا تقبل فصل العقل عن مدركاته، إذ العقل في تعريف القاضي عبد الجبار هو : جملة من العلوم مخصوصة متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال لذلك لا يقوم عند المعتزلة سؤال اشغل العقل الغربي (ايهما اسبق المادة ام الفكر)، من عدم الفصل هذا يتولد في ذهن المكلف مقدمات يقينية هي اولويات عقلية محضة يحكم على المحسوسات بواسطتها.
٢- المجربات وهي المشاهدة المتكررة والتجربة العملية والاختبار.
٣- المتواترات وهي المعرفة الضرورية التي تحصل من تواتر الاخبار.
٤- القضايا التي عرفت لا بنفسها بل بوسط.
علم الكلام من حيث الغرض : هو انتاج المعرفة او ادراكها موضوعياً، لينتقل الانسان ويرتقي من حضيض التقليد الى ذروة اليقين، عبر النظر والتفكر والحجة والبرهان والسلطان - أي قوة الحجة والبرهان ووضوحهما في الذهن - والدليل والفهم.
ينقل اهل علم الكلام معرفتهم للناس كافة، عبر منهج الجدل والحجاج، ومن هذا الجدل والحجاج تسمى هذا العلم بطريقة نقله للناس أي علم الكلام.
المحور الثاني
الفرق بين منهج الفلسفة ومنهج علم الكلام
العقل حقيقة مشتركة بين الناس، كما ان كل فرد من الناس هو كائن حي، فكل فرد من الناس هو ذات عارفة، وكل مقولات عند الناس - بغض النظر عن صدق المقولات او كذبها – هي مقولات معتمدة على وجود العقل، فمن لا عقل عنده لا مقولات لديه، ويمكن ان تكون المقولة كاذبة او مبالغ فيها، ومع ذلك فهي ذات جدوى، فمن حيث الاصل ليس هنا مقولة عقلية واخرى غير عقلية، وليس هناك مقولة علمية واخرى غير علمية، التفريق هو فرق في المنهج الذي سلكه العقل للوصول الى المعرفة على التعيين، والدليل على هذا القول هو قول القائل: إن الله اختراع بشري لا وجود له على الحقيقة مثل هذا القول ليس مقولة العلم، بل مقولة فرد انساني او جماعة انسانية سلكت منهجاً غير علمي للوصول الى هذه المقولة، إذ العلم لا يعطيها اكثر من قانون الظاهرة، عليه يجب ان ينصب البحث على منهج العقل وليس على مقولات في العقل.
اهل الفلسفة وصلوا الى مقولات عبر منهج خاص، واهل علم الكلام وصلوا الى مقولات عبر منهج خاص، الفلسفة هي دراسة المبادئ الاول للوجود والفكر دراسة موضوعية تنشد الحق وتهتدي بمنطق العقل ولهذا تبدأ الفلسفة بلا مقدمات عقلية ولا مسلمات تبدأ منها، الفلسفة لا تبدأ من الايمان التسليمي، ولا تبدأ من الرياضيات، او من الطبيعة، الفلسفة تحلل هذه البدايات نفسها الى مبادئها الاولى، ولهذا فالفلسفة ذات تشعبات: شعبة الميتافيزيقا تبحث في مطلق الوجود، والمنطق يبحث في صور الفكر والمعرفة كنظرية في علاقة الذات العارفة بالشيء المعروف، والاخلاق في المبدأ الذي يجعل السلوك خيراً ، وعلم الجمال يبحث في المبدأ الذي يجعل الجميل جميلاً، ولهذا تباينت منهاج الفلاسفة، وتعددت تفسيراتها، ونظراً لتغير اهتمامات الفلسفة صار لها تاريخ عبر العصور، فمن اين جاءت مقولة القائلين: ان علم الكلام ومسائله ومنهجه بدأ بمؤثرات خارجية ارجعت للفلسفة اليونانية؟!! وعندما تعوزهم الحجة لعدم وجود ما يشبه قضية الفلسفة اليونانية في فكر المعتزلة في مسألة، جعلوا المؤثر الفكر النصراني او اليهودي.
الاصل في الذي يريد ان يثبت التأثير إثبات جملة امور هي :
١- إثبات الاتصال بين المؤثر والمتأثر.
٢- عدم وجود اسباب داعية عند من وصفوه بمتأثر لنشأة المسألة او المسائل.
٣- اثبات وحدة المسائل بينهما وليس ادعاء وحدة المسائل.
٤- وحدة المناهج بينهما.
٥- ان تكون المسائل ليست مسائل انسانية بل مسائل خاصة.
٦- ان تكون مرجعية الطرف المتأتر ليس فيها تلك المسألة اوالمسائل.
٧- وحدة الغاية بينهما في المسألة او المسائل.
ان العودة لتاريخ نشأة علم الكلام، تثبت انقطاع الاتصال بين الفلسفة اليونانية ومنتجي علم الكلام، في الزمان، والمكان، واللسان، لقد احتدم الجدل بين المسلمين اثناء معركة صفين عام ٣٦ هـ واستمر الجدال محتدما ً طيلة العهد الاموي أي الى ١٣٢ هـ ليسير مسيرته التاريخية بعد ذلك، في هذه الفترة نضجت جميع مسائل علم الكلام الاساسية، عبر علي وابنه محمد وحفيده عبد الله لتصل الى واصل بن عطاء، الموصوف بأنه رأس المعتزلة، وهذه الفترة ليست فترة الترجمة، وهؤلاء الاربعة جميعاً من اهل المدينة، وانتقال علي للكوفة تم في ٣٦هـ وبقي فيها الى وفاته عام ٤٠هـ، اما محمد بن علي وابنه عبد الله فلم يخرجا من المدينة، اما واصل فهو من اهل المدينة ومولى للهاشميين، وبالتحديد لمحمد بن علي وابنه كما يوصل البحث، انتقل للبصرة بعد ١٠٠ هــ، وكانت معرفته ناضجة تماماً ، فما هو مستند تأتير الفلسفة في علم الكلام كما يبين عنها التاريخ؟!!.
ودليل آخر على ان علم الكلام غير الفلسفة، هو حكم الفلاسفة المعاصرين على علماء الكلام بأنهم ليسوا فلاسفة، والتراث الاسلامي فرق بين الفلسفة والفلاسفة وبين علم الكلام والمتكلمين.
كشف تحول الخلافة الى ملك عضوض وجبري، واتكاء معاوية والامويين من بعده على الجبر لتسويغ قهر الامة، واتباع سياسة الجور فيها، على ان دواعي بحث قضية العدل الإلاهي وما يتفرع عنه وما يبنى عليه، هي دواعي من داخل وصميم الامة الاسلامية لا من خارجها.
مسائل الفلسفة ليست هي مسائل علم الكلام، غاية مسائل الفلسفة هي ان تنشد الحق والخير والجمال كأفكار طوبوية، لكن علم الكلام باختصار شديد حدد غايته بأنها الانسان وحياته، وما قبلها ومابعدها، وعلاقة حياته بما قبلها وما بعدها (نظرية التكليف)، ومن الغرابة بمكان ان يقول قائل : (إذا استثنينا مسألة مرتكب الكبيرة التي اعتزل بها واصل بن عطاء رأس المعتزلة حلقة الحسن البصري، فإننا لا نكاد نجد مسألة من مسائل علم الكلام الا كانت ناشئة عن مسألة سبق للفلاسفة اليونان ان بحثوها)، ولم يستطع الاتيان بمسألة واحدة الا الدعوى بأن الفلاسفة اليونان بحثوا مسألة القضاء والقدر بمسمى (حرية الارادة)!.
الامور الباقية لاتحتاج لشرح فيكفي ذكرها.
المحور الثالث
علاقة علم الكلام بالعقل
يقول واصل بن عطاء: (الحقيقة تعرف بحجة العقل)
توحد المعتزلة بين العقل والعلم، وهو يتعلق بالاشياء والوقائع والحوادث (المعلومات) ومن هنا يعلم اختلاف تعريف المعتزلة عن تعريف الفلاسفة، الذي اساسه العقل بالقوة والعقل بالفعل وعن تعريف الصوفية الاشاعرة وهو قولهم جوهر مجرد عن المادة، وعن تعريف النصيين اهل الحديث اداة فهم للدين، وعن تعريف الماديين، فالعقل عند المعتزلة ليس قوة، ولا اداة في المعرفة، ولا عضو من اعضاء الجسم وظيفته المعرفة، ولا هو عنصر مشتق ثان عن المادة ويرفض المعتزلة مقولة الفكر قبل المادة وسابق عليها، او المادة قبل الفكر والفكر مجرد ناتج عن المادة، والعقل كما هو في الواحد من الناس هو في الآخرين ايضاً، والفرق بين عقل الصبي المميز والبالغ ان عقل الصبي لم يرتق بعد الى مستوى الاستدلال، وللعقل عند المعتزلة رقي آخر ولكنه ليس عقل التكليف، بل ناتج عن القدرة على النظر، وهو العقل القادر على توليد المعرفة وإذ وحد المعتزلة بين العقل والعلم أي جملة المعلومات وهذه تحتاج الى اللغة على وجه التلازم كان رجال العربية هم المعتزلة بلا منازع إذ اللغة هي مفتاح العلوم.
المحور الرابع
نشوء علم الكلام على يد المعتزلة وغيرهم عالة عليهم
منهم علماء الكلام الاوائل؟ من الاشاعرة علماء كلام، لكن امامهم الذي ينسبون اليه هو ابوالحسن علي بن اسماعيل سليل ابي موسى الاشعري من ٢٦٠-٣٢٤ هــ ، وكل عالم كلام من الاشاعرة جاء بعده في الزمن، ومن الماتريدية علماء كلام، والامام الذي ينسبون اليه هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي ت ٣٣٣هـ ، وكل عالم كلام من الماتريدية بعده زمناً، والامامية المتكونة على يد جعفر الصادق ت ١٤٨هـ لم تشتهر بعلم الكلام بادئ امرها، اما الاسماعيلية والذين وضح تكوينهم بعد موت جعفر الصادق فهم فلاسفة يونان، يدل على ذلك رسائل اخوان الصفا وخلان الوفا، ووجودهم يرجع الى زمن الامام المكتوم الثاني ت ٢٤٠ هــ وهو جعفر بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق، وعبد الله بن سعيد القطان المقلب بابن كلاب والذي يزعم الاشاعرة انه جذرهم فقد ت ٢٤٥هــ ، تكشف هذه التواريخ ان المعتزلة هم منشئوا علم الكلام، وكل من جاء بعدهم هو عالة عليهم، ورغم محاولة استعمال سلاح المعتزلة أي علم الكلام ضد المعتزلة، إلا إنه لم يجد الخصوم نفعاً، فلجئوا الى التكفير ، واخيراً التصفية الجسدية بعد صدور الوثيقة القادرية نسبة للخليفة القادر ت ٤٢٢هــ.
المحور الخامس
علم الكلام والاشراقات المشرقية
جملة واحدة تكفي في هذا المحور، وهي ان المعتزلة ترى ان المعرفة تحصل منا، وليست فينا، ما فينا هو مجرد الاستعداد، وهذا القول رفض للاشراق تماماً، ويظهر ان الاشراق يماثل مثالية المعرفة عند الغرب ويختلف معه.
المحور السادس
علم الكلام والمنطق اليوناني الأرسطي
يطفو على السطح سؤال هو: هل علم الكلام المعتزلي استخدم منطق ارسطو او غيره للتدليل على مسائله وقضاياه؟ يضع المرحوم الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير في كتاب الشخصية الجزء الاول بحثين حول هذا الموضوع، الاول بعنوان نشأة المتكلمين ومنهجهم ص ٣٥-٤١ ، والثاني بعنوان خطأ منهج المتكلمين ص ٤١-٤٩، وتبدو مشكلة الشيخ في ربطه بين المنهج والمنطق مع المعتزلة، وهذا القول لا حقيقة له، وانما هو وصف للاشاعرة المتأخرين، وللفلاسفة وللشيعة الامامية. المعتزلة اصحاب منهج اصيل، هم منتجوه وافكارهم افكار اسلامية، المعتزلة الاوائل والذين نضج الفكر والمنهج على يديهم وجدوا قبل الترجمة، والمتأخرون منهم من الطبقة السادسة الى الثانية عشرة ردوا على افكار الفلسفة، وعلى المنهج المنطقي، ومقولاتهم في رد المنطق مشهورة، من النظام الى الي العباس الناشئ الى الجبائي ابو علي فأبو سعيد السيرافي، وقد حفظ لنا التراث مناظرته القيمة مع منطقي هو يونس بن متى، الى الجبائي الابن (ابو هاشم) الى القاضي عبد الجبار، لينهار السد الذي بناه المعتزلة في وجه الفلسفة والمنطق بعد طرد المعتزلة من بمباشرة التفكير والجدل والدعوة.
المحور السابع
علم الكلام ومثالية المعرفة
النظرية المثالية في المعرفة ترى ان حقيقة الكون انه افكار وصور عقلية ، لها وجود قبلي في العقل وهو مذهب معرفي ساد في الغرب، من افلاطون الى باركلي الى كانت واخيراً وليس آخراً هيجل لكن المطلع على تفسير المعتزلة لآية الذر، يعلم ان المعتزلة ترفض هذه المعرفة المثالية.
المحور الثامن
علم الكلام والمادية العلمية
ربط اصحاب الفكر المادي بين ماديتهم والعلم، والمقصود بقولهم علم، هو ابحاث الطبيعة بمعنى القوانين والخواص والظواهر والمتغيرات، مهملين عمداً الجزء الرياضي الظاهر في هذه القوانين، والحياة من حيث هي بيولوجيا، والفلك من حيث هو اجرام سماوية، واصروا على ان البحث ممنوع من خلال سؤال من خلق؟ والى متى البقاء؟ وماذا بعد الفناء؟ هذه اسئلة جديرة بالاهتمام، لكن المادي العلمي يرفضها،المعتزلة اجابت على هذه المسألة ، من خلال لفت النظر لحدوث الاعراض، لتصل الى حدوث المادة أي خلقها، من قبل قادر لا يعجز، وعالم لا يجهل، وحي لايموت، وذات واجبة الوجود مصدر الوجود فلا تفنى.
المحور التاسع
انحراف علم الكلام بعد منع المعتزلة من انتاج المعرفة
الوثيقة القادرية اعلنت منع المعتزلة من الاجتهاد، ومنع المعتزلة من الجدل لنشر مقالاتهم ومن لا ينضبط فالسيف، التفكير اعلى انواع المعرفة، ليست الشريعة هي اعلى انواع المعرفة وليس العلم (التجريبي) هو اعلى انواع المعرفة، بل ان ارتفاع المعرفتين المعرفة الشرعية والعلم التجريبي يرتبط شرطياً في التفكير، وبغياب المعتزلة اجتر الاشاعرة مقالات فلسفية مترجمة دون وعي مسائلها، فكانت الفلسفة المترجمة تفتقد الحياة، وهي عبارة عن مقولات في غاية التعقيد وهبط العلم الشرعي، وتحول الى علم الشروح ثم شرح الشروح واخيراً الهوامش، وما حدث للعلم الشرعي حدث للعلم التجريبي، فدخلت المعرفة الاسلامية عصر الظلام، ودخلت المعرفة الغربية منتفعة بالمعارف الاسلامية عصر النهضة، سار الغرب ونام الشرق الاسلامي . كيف ننهض؟ ذلك هو السؤال الذي بقي سؤالاً منذ منتصف القرن الثامن عشر ولا زال سؤالاً!!!.
المحور العاشر
الضرورة الماسة لعلم الكلام اليوم كما هو الامس
ختاماً هل الامة بحاجة للتقدم نقيضاً للتخلف؟ هل الامة بحاجة للتحرير نقيضاً للهيمنة؟ هل الامة بحاجة للوحدة نقيضاً للتجزئة؟ هل الامة بحاجة للهوية نقيضاً للضياع الذي يلفها؟ هل الامة بحاجة للسيطرة على اعداء الحياة الفقر والجهل والمرض ومنع هؤلاء الاعداء من ان تستشري في حياة الناس؟ هل الامة بحاجة لأن تكون لها مكانة بين الامم بحيث تحمي نفسها من فرض الارادات عليها؟ لتكون كل ذلك لا بد ان تعرف ماضيها وتعمد لبعث الحياة فيه ليكون قادرا على السير نحو الحاضر،ان أمة تفقد ماضيها ستكون قعيدة الانتظار على الطوار، او اسيرة التبعية، ذلك ما كشفت عنه المحاولات العبثية منذ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ ت ١٢٣٧هــ - ١٨٢٢م وحتى الآن، والمسألة الآن واضحة/ هي العودة لبناء عقل الامة من النقطة التي فقدت فيها ديناميكة حضارتها، فالضرورة ماسة كما الامس تماماً لعلم الكلام او بمصطلح جديد علم التفكير.
تلك هي اشارات حول سير الامة في فكرها، يسعى المعتزلة للتواصل معه، وهم يدركون عظم المهمة، وتعدد العوائق وصعوبة الدرب ومرارة العيش وقساوة الحياة ومكر العدو وجبن الجمع عند اللقاء، ولكنهم يقرأون آية من القرآن الكريم ((قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.