رحمه الله تعالى

المعتزلة المعاصرة

أمين نايف حسين ذياب

Get Adobe Flash player

البحث في محتوى الموقع

احصائيات

عدد زيارات المحنوى : 546781

الديمقراطية الليبرالية

موسوعة جدل الأفكار (19)

جدل مع الديمقراطية الليبرالية الغربية

كشف لتاريخها وواقعها والأخطاء والقصور في معطياتـها

أمين نايف ذياب


بسم الله الرحمن الرحيم


الوطن العربي والعالم الإسلامي

في مواجهة الديمقراطية

¨من أكثر الأقوال سوءا هذا القول : إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب . فكل من يدعي ذلك ؛ يعني أنه لا يفهم الديمقراطية بدءا من يونانية الكلمة ـ والتي في مفهومها في لسان يونان تعني حكم الشعب ـ وهي ديمقراطية مباشرة تعني مشاركة الـمواطنين وتدخلهم الـمباشر في حكم أنفسهم ، وقد سوغت نفسها في أنْ يتمتع المواطنون بالمساواة السياسية وبالحرية في أنْ يحكموا أنفسهم وفي أنْ يُحكموا من قبل أنفسهم ، فهم الـحاكم والـمحكوم ، والسيادة التامة لجماعة المواطنين ومشاركتهم في الوظائف التشريعية والقضائية مباشرة ، وهذا الواقع أعطى الكلمة اليونانية المركبة من كلمتين هما جذراها ـ demos kratos - على التوالي : الشعب والحكم ، ولكن الشعب في مفهوم يونان ليس كل الناس ، بل مجموعة قليلة جدا من الناس ، أطلق عليها الأحرار ، ولا حق فيها للعبيد والنساء والمقيمين الأجانب ( إقامة دائمة ) والوافدين ، فالشعب مجموعة أحرار المدينة اليونانية ، وعادة لا تتجاوز هذه المجموعة 70 شخصا ، والرابطة بين أحرار المدينة هو الدولة أي ( المدينة ) ، والاقتصاد آنذاك هو الاقتصاد الزراعي ، وسيلاحظ القارئ أثر يونان في جميع تطورات الديمقراطية ، فهي تعود للقلة والرابطة الاقتصادية ، فالقلة والتحكم بالاقتصاد هما الشرطان البارزان في كل مناحي الديمقراطية .

¨القول المزيف الثاني هو القول : إنَّ فقدان الديمقراطية في الأنظمة العربية هو سبب تأخر الأمة ، فالألمان كان تقدمهم هائلا ـ في ظل أشد النظم الدكتاتورية عُتُواً ـ وهو النظام النازي ، والاتحاد السوفييتي كان متقدما كثيرا في أيام ستالين ، وانـهار في ظل دعوة البيروستروكا .

¨نظام الـهند وتركيا وتونس ومصر والأردن ولبنان والكويت واليمن الحالي : توصف كلها بأنـها تطبق قدرا من هذه الديمقراطية ، ولكنها كلها في حالة تأخر شديد ، بحيث فقدت أي قرار استقلالي .

مقدمة

دبت في الأمة أحاسيس النهوض منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ، وإذ أغشى أبصار المثقفين وهج الثورة الصناعية الغربية ، جعلوا جلَّ همهم مجاراة الغرب ، والغاية الوصول إلى ما عند الغرب من منجزات مادية ، وهي منجزات اعتمدت العلم والصناعة ، والأمة الآن ـ وبعد مضي أكثر من قرنين ونصف من الزمان ـ لا زالت  تراوح مكانـها ، فلا هي أخذت ما عند الغرب ،  ولا هي أعادت بناء نفسها على تراثها ، وهو تراث فيه غنى وقدرة على وضعها فعلا في مسار التقدم في المعرفة والإنتاج ، وسبب كل ذلك سطحية المعرفة عند النخبة التغريبية ، فهي كلها في حالة تبعية للغرب ، تبصر ما يريد الغرب منهم إبصاره ، وتعمى أبصارهم عن رؤية واقع الغرب كما هو في بناه الداخلية ، قال تعالى في حالهم : (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46) .

ويزداد الأمر شططا عند هذه الحفنة ، حين ضرب الأمثلة على الطريقة التي يباشر بـها الغرب القضايا العالمية ، فالبعد الإنساني عند هذه الحفنة لا يجوز أنْ يلتزم به الغرب ، الغرب هنا يلتزم بمصلحته ، ولكنهم يشتدون في تطبيقه ـ بل ويزورون معطيات التاريخ ، حين يكون الأمر متعلقا بسياسة الدولة الإسلامية في العالم ، هذه النخبة التغريبية تعرف نفسها جيدا ، الأمة تعرفها جيدا وتدرك غربتها عن هذه الأمة الخيرة .

الأمة الخيرة ـ وهي تدرك جماعة الغربة ـ أدارت الظهر لـها ، لكنها تبنت العودة للأصول ـ وهذا أمر حق ـ لكن الأصول : ليست هي التراث ، ولا التاريخ ، ولا مجموعة معينة من الفرق والمذاهب ، ولا هي هذا العالِم أو ذاك ، الأصول تنتج حركة حضارة حية , مميزة , وغير مخالطة بغيرها من مناهج التفكير , لكنها لا تتوقف عن الاجتهاد الصحيح , تنتفع بما عند غيرها ولا تنسخه بل تعيد هضمه وإنجازه ضمن معطيات الفكر الإسلامي .

وإذ ظهرت مشكلة في موضوع نـهضة الأمة عند أهل التغريب ، ظهرت مشكلة أخرى في الحركات الإسلامية ، فهم بين حركة مذهبية منعت الاجتهاد أو تحجرت على المذهب ، وبين حركات أخرى أخذت تتشكل وفق معيار الحياة الغربية ، والإخوان المسلمين ، ومن تولد عنهم من المفكرين كالترابي والنحناح  وراشد الغنوشي وحزب الوسط الإسلامي ، كل هؤلاء وغيرهم هم أكثر الحركات المتشكلة وفق مذاهب الـحياة الغربية ، ولـهم قدرة فائقة على نصرة الباطل ، يتبعون درب الالتواء ، قال الله تعالى فيهم وفي من هو مثلهم : (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ )) (الحج:8) وقال أيضا عنهم كاشفا كيفية اختيارهم لما يريدون : (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ))(النجم: من الآية23) .

لقد كان الأصل في هذا المقال محاججة دعاة التغريب ، وإذا بالإخوان المسلمين يدخلون درب الديمقراطية ، ويتحولون إلى أكثر الناس حماسا لـها ، ومن يقرأ المقابلة التي نشرت في جريدة الدستور العدد 12864 ، الصادر يوم الأربعاء , تاريخ 19ربيع الأول 1424هـ , الموافق21 أيار 2003م وقد أجراها نايف الـمحيسن مع الدكتور همام سعيد ، وهو عضو بارز جدا في حزب جبهة العمل الإسلامي ، ونائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن ، يمتلكه العجب من كل أقواله فالعنوان الرئيس للمقال وهو قول للدكتور همام " نسعى لأنْ يكون لنا دور مؤثر في المجلس النيابي المقبل " ويمكن القول من جوابات الدكتور أنَّه يتبنى الشعار القطري ـ الأردن أولا ـ ولا يستطيع القارئ ـ للحوار كله ـ أنْ يجد مطلبا واحدا , يبين عن نـهج إسلامي يريده الدكتور ، فلم ترد كلمة الإسلام أو أي عبارة من العبارات التقليدية  مثل : الإسلام هو الحل ، أو الجهاد سبيلنا ، أو القرآن الكريم دستورنا ، أو 000 أو000  ولو لمرة واحدة كأساس للمحاسبة أو التغيير ، فالإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي تكيفا تكيفا تاما لمتطلبات هذه المرحلة ، وهو التغير نحو الديمقراطية لا غير ، ولا يخدعنك أيها القارئ الكريم بعض إسلاميات ـ حين يتوجه الخطاب للجمهور ـ فهو مجرد استهلاك محلي ، انظر أقوالهم في الإعلام ،   ولـهذا كان لا بد من كتابة تكشف الديمقراطية ، وتقوم بعرضها عارية ، لا تختفي تحت ما يستر عريها أمام الناس كافة ، وَيُخَصُّ المقالُ الأخوان المسلمين خاصة بـهذا الكشف ـ بعد تحولـهم كأبرز دعاة لـها وهم أكثر الناس مدحا لـها .


الديمقراطية

هذه الديمقراطية التي أُدخلتْ على الأمة الإسلامية الخيرة من أوسع الأبواب ، وأخذت تمدحها وتدعي أنـها عليها مختلف التيارات, وتتباهى بـها وكأنـها الكنـز الثمين في الفكر السياسي ، وتدعيها كل أنواع الحكومات ، وادعاها كلًّ المفكرين ، وألقيت عنها المحاضرات وعقدت في سبيلها الندوات .

ندوات شرقية !! وأخرى غربية !! حتى تحول الشجر والحجر ، والزرع والثمر ، والحاكم والمحكوم ، والجلاّد والمجلود ، والقاتل والمقتول ، والمادح والممدوح ، والذام والمذموم ، والنائب المؤيد للصلح مع إسرائيل مع النائب المعارض لذلك ، كل هؤلاء تحولوا إلى مجموعة منشدين وعشاق هائمين في حب هذه الديمقراطية ! .

لقد تعلقت قلوب جميع الحركات السياسية ، والفكرية ، والحزبية ، وأهل الحكم ، والإعلام الرسمي ، والشعبي ، في أنْ يحوز كل واحد من هؤلاء شهادة إيزو بأنـهم ديمقراطيون !! ويمضي مسار التاريخ في الأمة إلى الخلف ، فمع كل صباح ديمقراطي مسار إلى الخلف .

الديمقراطية في أجلى معانيها ، وأعلى مبانيها ، هي ديمقراطية الولايات المتحدة ، فهل يستطيع أحد أنْ ينازع في ذلك ؟ لكن ما هي معطياتـها حتى داخل الولايات المتحدة ؟ هل أزالت الفقر والجهل والمرض من الولايات الخمسين ـ التي تضم الولايات المتحدة ـ ؟ هل ساوت بين أمريكي من أصل أوروبي وأمريكي من أصل إفرو أسيوي ؟ وهل سارت في سياسة عادلة بين الشعوب وقد انفردت في قيادة العالم ؟  .

هل يمكن لواحد لا يملك إلا القليل من الدولارات ؟ أن ينجح في تسلُّم مركز حاكم لولاية ، أو عضو كونغرس لولاية ، أو أنْ يكون واحداً من سنتورات إحدى الولايات ، أو رئيس الولايات المتحدة ؟ من مجموع 43 رئيسا بدءا من جورج واشنطن وحتى بوش الابن مدمر العراق إن لم يكن واحدا منهم  أي من أل(wasp ) تحديدا أي الجنس الأبيض البروتستنتي الإنجلساكوني باستثناء جون كندي إذ كان من الكاثوليك .

وهل يمكن لـهذا ـ صاحب القليل من الدولارات ـ أن يعالج مرضه بنفس الرعاية العلاجية التي تُمنح لرئيس الولايات المتحدة ؟ ! أو لـمن هو في واحد من مراكز القوة ؟ وعاشت الديمقراطية ! وليسقط العدل !! وسلاماً ! سلاماً ! للأمة التائهة ! . وبعد هذا كلام قليل عن هذه الديمقراطية ، التي زاغت بسببها أبصار الإخوان المسلمين !  .

الإسلام والديمقراطية

الحمدُ لله الأحد الواحد ، المنـزه عن المماثلة والمشابـهة ، الحكيم الخبير الغني ، فلا يفعل العبث أبدا ، فكل أفعاله على مقتضى الحكمة وهي رحمة للناس ، وفي كل زيادة تكليفية عوض من كريم ، هو الله الرحمن الرحيم ، تجلت آياته الدالة عليه في أنفسنا ، وفي حياتنا ، وفي كوننا وأشهد أن محمداً (ص)  خاتم رسله وبعد .

الشكر لمن يحب أن يكون من الذين قال الله تعالى فيهم :(( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )) (الزمر:18) ويرفض أن يكون من اتباع الناعقين بالخراب ـ بعد خراب البصرة وتدمير بغداد ـ بحجج واهية ، ويجعلون قول الله تعالى : (( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ )) (هود: من الآية88) شاهدا لـهم زورا وبـهتانا ، وليس شاهدا عليهم ولا يلفتهم قوله تعالى : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (الكهف:104) فلقد ثبت بما لا يقبل الشك ـ أنَّ العمل ضمن البرلمانات الديمقراطية ـ لا يؤدي إلى أدنى قدر من الإصلاح ، ومن يقول بغير ذلك فليقدم شهادته خطيا , مدونا فيها قائمة ولو بنـزر يسير جدا من دعوى الإصلاح المزعومة قال تعالى : (( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً )) (الكهف:5)

ما يدعو لتناول موضوع الديمقراطية ، مرة أخرى ـ هو ظهور مكابرة من بعض من يظن بـهم حب الإسلام ، فإذا بـهم يكابرون ، ليس لاجتهاد وصلوا إليه ، بل لكونـهم كادرا مقلدا في جماعة ، لم تستطع تلك الجماعة ـ في أي لحظة من لحظات التاريخ ، رغم شدة هدير الصوت ـ  أنْ تدعي أنـها خدمت الإسلام والمسلمين في مواقفها ، فدورها في الحفاظ على الواقع السيئ معلوم ومشهور ، وكان السكوت عن موقفهم هذا ـ ليس عن ضعف حجة وغياب دليل ـ بل لإعطائهم الفرصة ليدركوا ذلك إدراكا واقعيا ـ وخاصة الأنقياء البسطاء منهم ، الذين ليسوا في محل الشهرة والوجود في الواجهة .

كان المفروض ـ بعد السنوات العجاف في شد الرحال مع الديمقراطية ، أو الشورقراطية ـ أن تكون الأذهان قد خبرتـها فلا تنخدع بـها ، والرسول(ص) يقول ـ في حديث علقه البخاري ـ : الخديعة في النار ! وهل هناك خديعة أكبر من خديعة الأمة في جعلها تسير في درب الضياع ؟ !!! ويقال لـها : هذا هو الدرب ، عدولا بـها عن الصراط المستقيم ـ والدرب البين ، والطريق الواضح ، وسبيل الرشد لا الغي .

إنَّ إمكانية تعدد الآراء في موضوع الإسلام والديمقراطية قول خطأ ، فهو لا يحتمل وجود قولين فيه ، فلا بد من التأكيد على : إنَّ الإسلام غير الديمقراطية ، والديمقراطية غير الإسلام ، ولا مجال لتداخل الكلمتين مع بعضهما ، على مستوى الأصل اللغوي ، أو على مستوى المدلول ( المصطلح ) ويقتضي الكلام بشأنـهما الاختصار ، ولـهذا جاء الكلام مجرد إشارات دون الدخول بالتفصيلات حرصا على وقت القارئ .

فالإسلام كلمةٌ عربية اللغة صوتاً ووزناً ، وهي كلمة أصلية في اللغة ، وردت في القرآن الكريم لأكثر من معنى حسب لغة العرب ، فمن معانيها التعري من الآفات الظاهرة والباطنة ، والسلم هو الصلح ، والإسلام هو الدخول في دين الإسلام ظاهراً ، وقد يكون بمعنى الإيمان التام ، أي في العقل والقلب والفعل .

والإسلام اصطلاحاً : هو اسم علم للدين الذي أنزله الله على النبي محمد (ص) مرجعيته ـ بعد تحكيم العقل في تحقيق الأصول ـ هو : النص القرآني ، وبيان الرسول لما أجمله القرآن ـ أي السنة ـ القرآن والسنة هما الوحي ، وقد نشأ من خلال جعلهما مرجعية التاريخ الإسلامي والتراث الإسلامي ، والأخيران لا ينظر إليهما كمرجعية ـ وإنما ينظر إليهما على إنـهما نتاج البشر ، كفعل وفهم اجتهادي وهما أفقنا المعرفي لا يمكن تجاوزهما وهما موضع البناء والاعتبار .

الديمقراطية كلمة يونانية من حيث اللغة ، وهي مصطلح سياسي يوناني الأصل ، أما الآن فقد حدثت قطيعة تامة بين أصله اليوناني وحقيقته التي شكَّلها الفكر الغربي الرأسمالي ولا مجال للقول بوجود تشابه ولو قليلاً بين أصله اليوناني وسماته الغربية الرأسمالية فلا بد من الانتباه الشديد لهذه الحقيقة .

يزعم محبو الديمقراطية والمروجون لها : أنَّ الديمقراطية هي حكم الشعب للشعب وبالشعب ارتكازاً على مفهومها اليوناني ، وهي بـهذا المعنى لم توجد أبداً ، ولن توجد أبداً ، لاستحالة بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام  للنظر في الشؤون العامة ، فلا يمكن أن يكون الشعب كله حاكماً ، أو أن يتولى الإدارة ، أو أن يقوم بالتشريع والقضاء ، ولـهذا كان لابد من تأويلها بإيجاد السلطات الثلاث .

1.السلطة التشريعية ممثلة بالمجلس التشريعي ، وهذا المجلس التشريعي يختلف باختلاف الدساتير ، ففي الأردن نصت المادة ( 25 ) من الدستور الأردني على ما يلي : تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك ، ويتألف مجلس الأمة من مجلسي الأعيان والنواب .

2.السلطة التنفيذية وهي الحكومة ، ويتولاها رئيس الحكومة مع الوزراء ، وهي أيضاً تختلف باختلاف الدساتير ، ففي الدستور الأردني المادة ( 26 ) تناط السلطة التنفيذية بالملك ، ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام هذا الدستور .

3.السلطة القضائية وهي أيضاً تختلف باختلاف الدساتير ، وفي الأردن نصت المادة ( 27 ) من الدستور على ما يلي : السلطة القضائية تتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتـها وتصدر جميع الأحكام وفق القانون باسم الملك .

وقبل هذه المواد ( 27/ 26/ 25 ) تطالعنا المادة ( 24 ) في الفصل الثالث بعنوان السلطات / أحكام عامة وتقول المادة ( 24 ) .


الأمة مصدر السلطات .

تمارس الأمة سلطاتـها على الوجه المبين في هذا الدستور .

يتناول الكلام السابق الديمقراطية في مفصلين هما :

أ- خياليتها

ب- واقعها

ولإكمال البحث لا بد من البحث في مفصلين آخرين هما :

أ- قصورها

ب- إشكاليتها .

قصورها يطلب الإنسان من نظامه السياسي مطلبين :

1-  معالجة مشاكله الداخلية في الاقتصاد / الاجتماع / التعليم / الرعاية الطبية / الأمن الداخلي بكافة أشكاله / العدل .

2- وفي السياسة الخارجية العزة والحماية ، ولا يُظَنُّ أنَّ واحداً عاقلاً يقول : أن في الديمقراطية مثل هذه المعالجات ، فالديمقراطية أولاً وأخيراً هي حق الشعب في انتخاب نوابه انتخاباً حراً لمدة زمنية ، تختلف باختلاف الدساتير ، وهذا الانتخاب ليس حكرا على الديمقراطية ، وهي في الأردن(4) سنوات ، وفي الدستور الأردني المأخوذ عن الدستور البلجيكي عالجت المواد (62–96) مجلس الأمة بقسميه الأعيان والنواب ، ويفهم أن صلاحيات مجلس النواب على الخصوص هي صلاحيات ثلاث فقط .

1- منح الثقة لوزراء المجلس أو أحد الوزراء .

2- التشريع . أي الموافقة أو عدم الموافقة أو إجراء التعديل على القوانين .

3- المسائلة الحكومية أو المحاسبة ، فأين هذا الشعب في هذه الصلاحيات وأين العلاج للمشاكل الداخلية والخارجية فيها .

أمَّا إشكاليتها :

فتبدوا في كون الديمقراطية محتاجة على وجه التلازم للحريات ـ وليس للحرية ـ والتعددية مع حق الأكثرية بالحكم ، وتساوي الناس في الحصول على رعاية الدولة ولأول وهلة يظن أن هذه الأمور تخلو من الإشكاليات .

أولاً :- الحريات : ليست هي الحرية الإنسانية ، أي ـ حرية الإرادة والسيادة ـ وإنما المقصود بالحريات ، الحريات الأربعة وهي : الحرية الشخصية ، وحرية الاعتقاد ، وحرية التعبير ، والحرية الاقتصادية ، وسيكون التركيز على الحرية الرابعة ، لا لأن الثلاث الأولى تخلو من الإشكاليات بل لأن الحرية الاقتصادية هي أسباب ما يجرى في العالم اليوم من شقاء فكل مآسي العالم والعالم الثالث على وجه الخصوص يكمن في إطلاق الحرية الاقتصادية ، وهي الآن تتمثل بالقطاع الخاص (الخصخصة) ويمكن القول : إنَّـها إله العالم اليوم ، فالولايات المتحدة وأعوانـها الغربيون  سيطروا على اقتصاد العالم من خلال مجموعة (G . 7) أو 8 همهم ممارسة الشرور على العالم كله في هذا الزمن!!

ثانياً : - التعددية وحق الأكثرية في الحكم هل هذه الأكثرية فعلاً في محل النـزاهة والمحايدة ؟ بحيث يمكن القول : أنْ لا مصالح لـها لتسير الحكم على هذا الوجه ، أو تلك الصورة ، هذا ببلدان الديمقراطية الغربية ، أما بلدان الديمقراطية الناشئة في : الأردن ، مصر ، تركيا ، إندونيسيا، المغرب العربي ، تونس ، لبنان ، الـهند ، وباكستان ، أليست هذه الأكثرية تتوجه حسب رغبة رأس الحكم ؟ ! .

ثالثاً : - التساوي ، هل يمكن التساوي في فرض العمل ؟ مثلا : كفاءة مميزة ، وكفاءة عادية ، أو كفاءة متدنية ، أو لا كفاءة !!! وهل يمكن التساوي في فرص التعليم العالي أمام معدل علمي (96%) ومعدل  (70%) أو دون ذلك ؟ بقي الزعم التساوي في القانون ، هل يمكن ـ وعلي الحقيقة ـ التساوي في القانون ، أمام من يستطيع من ناحية مالية توكيل أقدر المحامين ، ومن لا يستطيع توكيل حتى كاتب استدعاءات ؟ .

الديمقراطية الغربية موضع نقد من قبل كثير من  المفكرين ، وأهل الديمقراطية الغريبة يدركون إشكالياتـها ، والكثير منهم كفر بـها ، أو رفضها ، أو نقدها ، وشعوب الغرب العامة وهي شعوب قاصرة في التفكير الإنساني (1) وقعت أسيرة حبها ، ولهذا رأت في العدوان على العراق وقتل أهله وأطفاله  و شيوخه ونساءه وهدم عمرانه وإنشاءاته عملاً ديمقراطياً . المقصود الموقف في حرب الخليج عام 1991م .

__________________________________________________

( 1 ) شعوب الغرب كافة ذات وعي على حاجاتـها النفعية ، وتمتلئ بحب الشهرة والعُجب والاستكبار ، فكل هم شعوب الغرب هو أمنها السياسي والاقتصادي ، أما بقية شعوب العالم ؛ فالنظر إليه قائم على استصغار شانه ، وتحقير مكانته ، وضرورة تبعيته للغرب ، وهذا الوصف يفسر موقف الشعوب الغربية من بقية العالم . ولا يلفتنكم أيها الرجال وجود بؤر معكم فهي غير مؤثرة.

__________________________________________________

الديمقراطيون المراهقون في العالم الثالث : في الأردن ، في مصر ، في تركيا في تونس ، وفي المغرب ، يتغزلون بـها ويمجدونـها أكثر من أهلها الحقيقيين ، لكنهم يرفضون إعطاء تعريف لـها ، تاريخياً ، أو لغوياً ، أو مفهومياً ، لأنـهم لا يعرفونـها ابتداءاً ، وليست لديهم مفاهيم عنها .

بعض أهل الحب للديمقراطية ؛ أخذ يقسم الأقسام المغلظة أنـها تنتمي إلى الإسلام ، بل هي روحه ، أو حقيقته ، يلوى عنق الآيات كما يريد ، مع أنه لا توجد آية واحدة ، أو واقعاً واحداً في حياة محمد (ص) يدل على تلك الديمقراطية .

الإسلام ينظر إلى الأمة فيجعلها صاحبة السلطان ، ويرى أن الأمة تتكون من خلال وحدة أفكارها ومفاهيمها ومقاييسها وقناعتها ، المستمدة من مرجعيتها الفكرية ، فينتج عن ذلك إرادة عامة ، هي إرادة الأمة ، وإذ تحدد تلك الأفكار والمفاهيم والمقاييس والقناعات مشاعر الأمة ـ أي الموقف العملي ـ فتكون تلك المشاعر سيادة الأمة ، والإرادة والسيادة غير قابلين للتجزئة أو التنازل عنها أو بعضها ، وهذا ما يسمى بالقيمة الذاتية للأمة ، ومن خلال هذه الإرادة العامة والسيادة العامة تولى الأمة السلطة لمن تريد ، لأن السلطة ـ وهي مظهر الإدارة العامة والسيادة العامة ـ قابلة للتنازل عنها أو عن بعضها . أي بموجب الإرادة العامة والسيادة العامة تعطي السلطة للحاكم . فالأمة تعطيه للحاكم بعقد مراضاة ليحكم وفق مرجعية الأمة .

إنَّ سلطان الأمة في الإسلام يتمثل في سلطة الإمام : الحر , العدل , المكلف , العالِم , الـمجتهد . الكفء , الشجاع , السليم الحواس , الصحيح الجوارح , القادر على تولي مهام السلطة نيابة عن الأمة ـ بموجب اختيار حر ـ فيكون بين الأمة وأمامها عقد مراضاة على تولي الأمر ، وفق شروط العقد ، الذي هو عقد على الرعاية على أساس الإسلام ، ونحن المعتزلة نجيز بعد الدراسة والبحث دخول التوقيت على العقد ، إذ جرَّ العقد الدائم البلاء على الأمة ، بأن تناقلها أهل الملك العضوض على سبيل الوراثة ، ولهذا نتبنى ضرورة التوقيت ، ونراه هو الصواب وغيره الخطأ والدليل واضح بجواز التوقيت ، فلا يجوز القياس على النبوة من جهة ، ولا يجوز جعل تاريخ الراشدين هو المصدر التشريعي ، وقصة فتنة الدار حدثت بسبب غياب هذه الصورة صورة : السلطان للأمة ، ولـها محاسبته وعزله .

صورة الاختيار هذه ، لا تطابق اختيار الحاكم في الديمقراطية الغربية ، إذ هي تفترق عنه في أكثر من حالة ، فالغرب لا يمنع مراكز القوى من التأثير ، ولـهذا لا بد من منع مراكز القوى من التأثير في انتخاب الإمام , بل لا بد أن يأتي الإمام بعقد مراضاة بين الحاكم والمحكوم ، ولا بد من أن تكون الأمة في محل القدرة على عزله ، من خلال محكمة المظالم لـمجرد فقدانه الأهلية الموضوعية ، أو مخالفة شروط العقد في سياسة الرعية .

معاونو الأمام , وولاة الولايات , وأمراء المقاطعات , يشترط فيهم ما يشترط بالإمام , باستثناء الاجتهاد , وهم والأمام مثلهم لا يجوز لـهم الاحتجاب عن الناس ، فهم يتولون أمامه الناس بالصلوات الخمس ، والجمع ، والأعياد ، وكل الصلوات المسنونة جماعة ، أول الناس في اللقاء وآخر الناس في المغانم  .

إن الشورى حق عام للمسلمين وأهل الذمة ـ أي لكل المواطنين المكلفين ـ والتكليف شرطه البلوغ ، وأنه وإن كان يجوز إيجاد مجلس أمة منتخب انتخاباً مباشراً من كل الناس ، ويجوز لأهل الذمة وللنساء دخول هذا المجلس ، إلاَّ أن لكل من هو مواطن من المسلمين وغيرهم ؛ حق إبداء الرأي في إحسان التطبيق أو إساءته مباشرة ، فالوكيل وهم أعضاء مجلس الشورى لا يمنعون الأصيل من مباشرة هذا الحق ـ أي الشعب / الأمة .

في هذه الصورة التي وردت على شكل مختصر جداً يظهر الفرق واضحاً جلياً بين الحكم الإسلامي ـ الذي يجب أنْ يكون السعي إليه ـ وهو سلطان الأمة ـ وبين الديمقراطية المروج لـها ، والتي هي حكم الأكثرية ، وقد تكون في كثير من الـحالات هي أقلية مستولية على مراكز القوى من خلال حيازتـها المال وسيطرتـها على الإعلام كما هي في الغرب في العالم الأول والعالم الثاني سابقا ، أو من خلال السيطرة على الإرادة العامة والسيادة العامة كما تتجلى واضحة في العالم الثالث .

إنَّ الديمقراطية لا علاقة لـها بالإسلام ، ولا تمتُّ له بأدنى سبب ، فالإسلام  بريء منها ، وكون الأمة تعاني الإحباط والتردي والسقوط ، فإنه لا يجوز لـها أنْ يصيبها الإعشاء ، فلا تبصر الدرب .

(( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:108) .

وأخيرا : إنَّ الأمر جد لا هزل . فهذه مرحلة ـ مرحلة تدمير العراق وتحكم الأمريكان فيه ـ  وضعت الأمة الإسلامية أمام طريقين لا ثالث لـهما : قبول الاندثار بقبول معطيات الديمقراطية والعيش عليها ، وتحويل الإسلام إلى مجرد دين يعطي الديمقراطية مشروعيتها ، وهذا ما يرتكبه الإخوان المسلمون الآن ، أو إعلان رفض الديمقراطية وتحديها بالدعوة للأصل الإسلامي العدل ، وهو يقتضي العمل الجاد لقيام الدولة الإسلامية في النواة الطبيعية العراق وبلاد الشام ومصر ، وهذا يوجب عدم المشاركة في نصرة الديمقراطية ، أي عدم الوقوع في شرك الأحبولات ، وهي الموازنة بين مقاطعة الانتخابات  ـ وهي عمل صحيح ـ وبين قبول الاندثار بالانضواء تحت عباءة رأي الأكثرية المزيف ، وتكفي هذه الآية التالية حجة واضحة وكافية في حكم الـمشاركة بما يسمى العرس الديمقراطي (( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ )) (هود: من الآية113) .

الأمة الآن مدعوة لوعي الحقائق وهذه الحقائق هي :

1. يطلب الغرب طلبا واضحا جليا ! بفصل الإسلام عن الدولة والسياسة ، والبعض التغريبي ـ أكثر من الغرب ـ يطلب فصل الإسلام عن الحياة ، وهذا الأمر صار من المسلمات ، ولا يمكن الوقوف بوجه هذا الخطر عبر البرلمانات ، فالبرلمانات وسيلة تمرير ذلك بحجة رأي الأكثرية ، فالحذر كل الحذر من الوقوع بـهذا الفخ ، خاصة أنـهم يهاجمون الاستبداد ، وبديله في الغرب هو الاستلاب ، أي افتقاد الذات القدرة على التفكير ، وممارسة الجماهير الإرادة والسيادة إذ سلبها نظام الاستهلاك ذلك .

2. يعلن الغرب ليلا نـهارا ! ضرورة تغيير النهج الثقافي للمسلمين ، وهو نـهج مؤسس بشكل عام على القرآن ، ويؤثر في كون الأمة الإسلامية ذات حضارة ، وهي حضارة تختلف كليا عن نـهج إنسانيات الغرب المزيفة المدعاة مثل : حقوق الإنسان ـ ومنه حقوق المرأة ـ ، وحق الطفل ، وحق الأقلية وغيرها ، وهي منظومة حقوق شكلية غايتها حماية التبعية للغرب ، وليس لـها أية قيمة في كرامة الإنسان ، وحقه الطبيعي في العيش الكريم الآمن ، ولا في الحفاظ على عدم إكراهه على تغيير دينه ، ولا في مراعاة العدل في علاقاته ،  وصون عرضه والحفاظ على أسرته ، فالحقوق من وجهة النظر الغربية حقوق مزيفة ، وتحصين هذا النهج الثقافي من التغيير المطلوب من قبل الغرب لا يتم بوجود البرلمان ، بل سيتم تمريره بنواله أكثرية الأصوات ، رغم إتاحة المنبر لمن يريد الرفض .

3. تستهدف هذه المرحلة تغيير منظومة القيم ، وهي مقاصد الشريعة الخمسة : الحفاظ على الحياة ، وعلى العقل ، وعلى الدين ، وعلى العرض ، وعلى المال ، وهي مقاصد متلازمة لا تنفك عن بعضها ، ومن المعلوم ضروريا وجود هجوم على هذه المقاصد باسم الحرية ، وإعلان رفض النظام القيمي في ثلاثيته : الحرام ، والعيب ، والممنوع ، ويزعمون : إنَّ الإنسان العربي وهو يسمع  هذه الثلاثية : بحق الدين ، والجنس ، والسياسة ، فوجد من جراء ذلك الإنسان العاجز ، وهو إنسان غير قادر على مباشرة الحياة الحرة ، فهم يربطون بين الحرية وضرورة التحلل من منظومة القيم ، وعلى سبيل التذكير كان الهجوم على المادة 340 لا لحماية المرأة من القتل الظالم بل الأمر متعلق بإلغاء مفهوم قدسية العرض أي لإلغاء الذاكرة التي تقول : ( تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ) ولا يقال البرلمان منبر للوقوف في وجه ذلك البرلمان شرعية الأكثرية المزيفة عبر التصويت .

هذه مجرد ملاحظات حول المستقبل كما يريده الأعداء ، ويقبله السياسيون المحليون ، ويدعو إليه دعاة التغريب ، وهم يشكلون الفعل ، وغيرهم له الصوت .


رأي في الديمقراطية

في 12/2/ 1996 م نشرت الدستور الرد التالي ، وهو رد ناقش رؤية دولة السيد طاهر المصري ، وكشف التعميمات التي تمارس على هذه الأمة من قبل زمرة النخبة ، لتبقى في التيه والضياع ، تحرث البحر ، وتزرع الأرض اليباب / والرد حوى قسمان : قسم  متعلق بالديمقراطية ، وقسم متعلق بالعمل السياسي الحق ، وإذ الديمقراطية لا زالت هي أداة نشر الجهالة والضلالة ،  وكيفية العمل السياسي الحق لا زال مبهما ، تم النشر هذا ، علَّ الرؤية تستقيم فلا تتعلق بما هو أوهى من خيط العنكبوت .

في سبيل إعادة بناء الوعي

الديموقراطية والنخبة وإشكالية العمل السياسي

بحث حواري

دخول إلى رؤية الأستاذ طاهر المصري

المنشورة في جريدة الدستور العدد رقم " 10216 "

الصادر في 10 رمضان 1416 هـ

الموافق 30 كانون ثاني 1996 م

إعداد

أمين نايف ذياب


بسم الله الرحمن الرحيم

السيد رئيس تحرير جريدة الدستور الغرام المحترم

بعد التحية والتقدير :

نشرت الدستور العدد " 10216" الصادر يوم الثلاثاء 10رمضان 1416 هـ الموافق 30 كانون أول 1996 م حواراً فكرياً وسياسياً مع دولة السيد طاهر المصري ومما جاء في فذلكة محاورهِ السيد عريب الرنتاوي " وقد ارتأينا أن نخرجَ في حديثنا مع الأستاذ طاهر المصري مع إطار المألوف في " المقابلات الصحفية " إلى فضاء الحوار وفتح الأبواب والنوافذ للنقاش ، آملين أن نلقي الاستجابة المناسبة ، من جمهور الكتاب والمثقفين والسياسيين ، إغناءً الحوار وتعميقاً للتَّفهم والتَّفاهم " .

هكذا يعلمُ القارئُ أن السيد عريب الرنتاوي ، أحد كتبة الأعمدة وأحد صحفيي الدستور ، ويوجه دعوةً مفتوحةً ، لمن أراد أن يكتب ، حول المواضيع التي جرى الحوار حولها ، وهي مواضيع ذات حساسية عالية ، لأن دولة الأستاذ طاهر المصري هو أحد من رجال الحكم في الأردن . إن الحكم في الأردن يراهن على حصان طروادة . واستجابة لدعوة الأستاذ عريب الرنتاوي فهذا مقالٌ بالعنوان التالي .


"الديموقراطية والنخبة وإشكالية العمل السياسي "

(1) أ ـ الحوار واقعية سياسية أم ولادة مستقبلية ؟

للواقعية السياسية معنيان ، الأول منها أنها فن الممكن أي محاولة التأثر في الواقع للوصول إلى فضل النتائج الممكنة ، باختصار " عدم طلب المستحيل " . والسياسة يجب أن تجري على هذا الأساس وإلا تحولت إلى تخيلات وأوهام وأحلام . ولكن للواقعية معنى آخر وهو التزام بالواقع وعدم الخروج عليه فتكون الحركة المطلوبة داخل الواقع دون سعي لتغييره على اعتبار " أن ليس في الإمكان أبدع مما كان " أو هذا هو قدرنا .

إجابات دولة الأستاذ طاهر المصري في تحليل الحقيقي لمفاهيمها تنتمي للنظرية الثانية ، أي الحركة داخل الواقع رغم ما يُرى فيها من ملامح أحياناً تُظهر أنها تسعى لتغيير الواقع مثل قوله ! سوريا الطبيعية هي الرد الأولىّ على إسرائيل الكبرى " لكن الملامح تختفي نهائياً حينَ فهم مدلولات الجملة فهما سياسياً ، وذلك أن مشروع سوريا الطبيعية الذي يطرحه ليس هدماً للقطرية بل هو حالةُ انفتاح على بعضنا البعض ، أو هو تكتلٌ اقتصادي ينعكس إلى تكتل سياسي، وسوريا الطبيعية ليست حاجة ضرورية كنواة للواحدة الأكبر ، وخطوة أولى لزلزال هيمنة الولايات المتحدة ، ولاجتثاث دولة اليهود من الأرض العربية الإسلامية ، بل هي رد أولى على إسرائيل الكبرى ، أي ليس لزوال إسرائيل الصغرى ، ومع ذلك فإن نظرية التوحيد كرد أولي تفتقد الآليات والنهج للوصول إلى الهدف ، فالأمر مجرد رؤية وحلم ونظرية بلا ممارسة .

ليس من تثريب أو لوم على دولة الأستاذ طاهر ، أن كانت رؤية السياسة محاصرة بالواقعية السياسية بالدلالة الثانية ، إذ بصفته مارس العمل السياسي الرسمي ، لا بد أن يأسره الواقع السياسي ،  ولو كان من أهل التنظير فقط ، لكانت له رؤية أخرى .

يقود هذا القول إلى أن الحالة السياسية التي تجري على أرض الواقع أحدثت حصاراً على العمل السياسي ، فوقع بين توهتين : تنظير دون حركة ، أو حركة من خلال الواقع وكلاهما مرُّ وعلقم . فما هو الطريق لكسر هذه الحالة السياسية ؟ وأحدث نقلة فعلية ، بحيث يجري الانتقال إلى وضع النظرية موضع الحركة ، ومباشرة الفعل . هذا هو أساس البحث ومساره وهدفه .

( ب ) الديمقراطية ـ الليبرالية ـ التنوير هي هاجس الحوار

من يحاول إحصاء الديموقراطية مفردة أو مضافة أو موصوفة الواردة في الحوار سيجدها قد وردت في الحوار خمساً وخمسين مرة باستثناء ما ورد في الفذلكة أما في العناوين التي هي من أخرج المحاور أو التحرير ، فسيجدها في خمسة عناوين من أصل ستة عشر عنواناً . وهذا الإحصاء يكفي للقول بأن الديمقراطية غطت الحوار كله ، وما جاء غيرها إنما هو مرتكز عليها ، فما هي هذه الديمقراطية التي هي الهاجس والهم الأساسي للحوار ؟ هذه هي دعوة لملاحظة الوقائع الحية التالية :

* الدولة الأردنية ( أي النظام الأردني ) يعلن الديمقراطية في كل المحافل والمؤتمرات سواء أكانت محافل في الخارج أو الداخل .

* الحكومة وعلى لسان سيادة الرئيس ومعالي نائب الوزراء وجميع الوزراء يعلنون في كل ساعة ووقت وآن أنهم يمارسون الديمقراطية ويطلبون من الناس ممارسة الديمقراطية .

* نواب البرلمان الموالون للحكومة مع رئيس مجلس النواب يعلنون أنهم ديمقراطيون ولا بد من المسيرة الديمقراطية وإنجاح التجربة الديمقراطية .

* نواب البرلمان المعارضون للحكومة ـ حتى الإسلاميون منهم ـ يطلبون الديمقراطية . ودولة الأستاذ طاهر قال في حواره : " الجميع بمن فيهم الإسلاميون يشهرون إيمانهم بالديمقراطية ، وتفيُّدَهم بالدستور والقانون والميثاق وغير ذلك من معايير ومرجعيات للتجربة " وما هو معروف للناس جميعاً أن النائب توجان فيصل ، من أشد الناس حماساً للديمقراطية ، ومعالي وزير الثقافة والأستاذ أياد قطان يعلنان الحب العميق للديمقراطية !.

* الأحزاب السياسية المرخصة تعلن أناء الليل وأطراف النهار ، أنها ديمقراطية الشكل والمضمون والفعل الحركي ، تفكيراً أو ممارسة ، ومثل الأحزاب المنتديات والجمعيات الفكريةُ السياسية ، مثل المنتدى العربي ، والتيار الديمقراطي ، ونهج الحريات والديمقراطية ، وغيرها .

* الإذاعة والتلفاز يعلنان ليل نهار إعلانات ديمقراطية ومدائح للديمقراطية يتضاءل إلى جنبها مدائح المتنبي لسيف الدولة الحمداني .

* الصحافة الحذرة وصحافة الإثارة وكُتاب أعمدة هذين النوعين من الصحافة المختلفة ، تتسابق لتمجيد الديمقراطية ، والكتابة التي يُرفض نشرُها مرفوضة باسم الديمقراطية ، والمقبولةُ مقبولةٌ باسم الديمقراطية .

* ما سبق بعض أوجه الإعلانات الديمقراطية والمدائح للديمقراطية . فماذا يعني ذلك ؟ عندما يكون وليُ الأمر ديمقراطيا ومعارضُةُ ديمقراطيا ، وهي حالة يتعايش معها جميع الناس ، ويدركون ذلك إدراكا حقيقيا ، والغربُ المهيمن على هذه الأمة وهو عدوها الألدُّ يطلب تطبيق الديمقراطية ، والليبرالية ، والتعددية ، والحفاظ على حقوق الإنسان .

يُفهم مما سبق أن الديمقراطية تفتقد المُحدِّدات ، وتختلط فيها السمات ، وتتداخل المعالم بحيث أنها يمكن أن تُلبس من كل الألوان ، ولكل المقاسات ، وكل الأنواع الإنسانية ، وكل أنواع السلوك الإنساني فتعطي لكل هذه التناقضات وتبريراً .

( 2 ) ـ الديمقراطية من اليونان إلى الرومان الجدد إلى

الاشتراكية إلى العالم الثالث

ـ الديمقراطية يونانية الأصل اللغوي ونقلها اليونان إلى مصطلح سياسي هو : أن يحكم الشعب نفسه بنفسه .وهي ممكنةٌ الوجود في مدينة يبلغ الأحرار فيها الذين لهم حقُّ مباشرة الحكم سبعين شخصاً . لكن لا يتأتى لها هذا الوجود ، في حالة تطبيقها على مجتمع يتألف من شرائح اجتماعية كثيرة ومختلفة ، ولهذا قام الغرب بتأويلها حين وجد الضرورة لأخذها .

ـ رأى الرومان الجدد ( الغرب ) أن تأويلها لإمكانية تطبيقها هو في جعل السلطات ثلاثاً هي : التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وأن الشعب يمارس هذه السلطات الثلاثة من خلال اختصاره والحُر لنوابه ( السلطة التشريعية ) وليس للشعب أي دور غير ذلك ومن هنا وجدت حكومة الفئة الأقوى الرأسمالية بما لهم من نفوذ مالي فالديمقراطية الغربية هي تولي الرأسماليين السلطة نيابة عن الشعب بقوة المال ، وهذا هو المعلوم من أحوال كل الدول الرأسمالية .

ـ في الديمقراطية الاشتراكية وُجدت رأسمالية بدون رأسماليين والذي يدير المال هو الحزب الحاكم ولهذا وُجدت الديمقراطية الشعبية الموصوفةُ نسبةً إلى الشعب ولكن لا دور للشعب إلا اختيار كوادر الحزب فالديمقراطية الشعبية هي تسلط الحزب الحاكم على الشعب وعلى مقدراته .

منذ أواسط عام (1976م) قام الغرب بحملة مسعورة في البلاد الإسلامية يدعو للديمقراطية وقد أقرّ دولة الأستاذ طاهر المصري بهذه الحقيقة حين وصفها : " المناخات الدولية الضاغطة باتجاه إشاعة الديمقراطية " ومع أن الغرب كان يدعو العالم الإسلامي للديمقراطية ، في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، على اعتبار أن الديمقراطية من الإسلام ، إلا أنهم الآن يَدعُون للديمقراطية كنظام حكم ، هو وحدة الأمثل والأفضل والأكمل . ورفضه يعني الديكتاتورية والاستبداد والظلم والتأخر ، في مفهوم دعاة الديمقراطية ، ومع أن تركيا أخذت بالديمقراطية ، منذ زمن إلا أنها تعاني من التأخر. مع أن الهند أخذت بها أيضاً إلا أنها لا تزال تعاني الفقر والتخلف ، وضعف التأثير السياسي العالمي ، رغم مساحتها ، ورغم العدد البشري الذي يسكنها .


(3)ـ الديكتاتورية والاستبداد والظلم والتخلف أمور مرفوضة

الديمقراطية الغربية مرفوضة إذ هي تعني سيطرة المال

الديمقراطية الشعبية مرفوضة إذ هي تعني سيطرة الحزب الحاكم

ما هو البديل ؟ وهل هناك بديلٌ فعلاً ؟

دعاة الديمقراطية يحشرون محاورهم في زاوية ويضعونه أمام أمرين الديمقراطية أو الديكتاتورية ؟

من المعلوم أن البلاد العربية أثر نكبة فلسطين دخلت في تجربة الانقلابات العسكرية ووُجدت أنظمة الديكتاتورية وخاصة في سوريا ومصر والعراق . وأن هذه الدكتاتورية إمعاناً بالتضليل السياسي انحازت إلى القطب الماركسي (الشيوعية الروسية والاتحاد السوفيتي سابقاً) ومع المظالم الشديدة التي أوقعتها هذه الأنظمة الديكتاتورية حدثت إزاحات في المواقف من قبل المثقفين العرب القوميين واليساريين نحو الديمقراطية وإنحازالإسلاميون إلى الأنظمة التقليدية القبلية ومع توالي الإحباطات توالت الدعوات للديمقراطية ووُجد لها مناخ الملائم بدون أية دراسة تحليلية لماركتها المصدرة من الغرب ، أي هل هي نفس الديمقراطية الغربية ؟ وما هو واقعها عند الغرب ؟ وهل هي تخفي نظاماً متسلطا أم لا ؟ ما أثر حركتها في فقر العالم الثالث وتخلفه ؟ ولقد اشتد ساعد الترويج لها مع أنها هي ديموقراطية العالم الثالث وهي بالتالي تعطي السيطرة التامة للنظام الحاكم بحيث تُلبِسُهُ ثوبَ الشرعية دون إمكانية لتغييرالنهج السياسي الذي يسير عليه إلا من ناحية شكلية والتجربة الأردنية تعرض هذه الحقيقة وتكشفها للناس عارية ، ولذلك كانت هاجس الأستاذ طاهر حيث قال " إنها بمرحلة انحسار وتراجع ووجود خطر عليها من جهات متعددة … الخ " .

عندما يعرض الإسلاميون الذين لا زالوا في محل الرفض للديمقراطية الغربية إنما يعرضون بديلاً هو النموذج التاريخي الإسلامي الراشدي مع أن هذا النموذج لم تطلْ مدته ، إذ هي ثلاثون سنة ، ثم جاء الملك العضوض، ودخل العصر الراشدي ما يسمى مرحلة الفتنة من ( 35 ـ 40 هـ ) التي آلت إلى نهاية فاجعة هي مقتل عثمان وعلى وحرب الجمل ثم فتنة النهروان ، وانتصار الملك العضوض وهذا يمَكِّنُ خصمهم من رفض هذا الطرح .

إن ما يجب أن يُطرحَ هو نمط دول العدل الإسلامية تنظيراً أو تاريخياً فيجب أن يطرح العهد الراشدي،الدولة الإدريسية في المغرب ، الدولة الأباضية الرستمية في المغرب ، دولة الزيدية المعتزلة في الديلم وطبرستان ، دولة الزيدية في اليمن ، ودولة الأباضية المشرقية في عمان منذ الجُلندى إلى الأمام غالب بن علي الهنائي هذا بالإضافة إلى العديد من الثورات التي سعت لإعادة الرشد الإسلامي من ثورة الحسين بن علي بن أبي طالب إلى ثورات آل البيت وثورات العدليين وثورات الخوارج .

وحين التنظير للنظام السياسي الإسلامي لا بد من قراءة نظرية إمامة العدل كما هي عند المعتزلة التي هي مؤسسة على عقد المراضاة والقسمة بالسوية والعدل بالرعية وإحسان الرعاية للدنيا والدين . في الداخل والخارج ثم قراءة مثل ذلك النظام مقارنة مع الديمقراطية لمعرفة مقدار الأخطاء التي وقع فيها المثقفون والسياسيون والكتاب والعلماء العرب حين تناولوا مسألة نظام الحكم بصورة ساذجة وجعلوا المركزية الغربية مهوى أفئدتهم في السياسة والحكم والاقتصاد .


(4) ـ قاموس الحوار

" مفردات مُضافةٌ أو داخلة في جمل وردت في بينة الحوار مع دولة الأستاذ طاهر "

حوى الحوار ما يلي (1) رموز الاعتدال والواقعية (2) الاختيار الديموقراطي (3) التوازن والاعتدال (4) أركان التيار الديموقراطي الليبرالي التنويري الأعرض والأشمل ( 5 ) من أنصار عملية السلام ( 6 ) حرق المراحل أو الاستعجال ( 7 ) قومي عربي وإن أبدي قبولاً بفكرة إبراز الهوية الوطنية ( 8 ) ليبرالي التوجه ( 9 ) عن جادة الالتزام بالديمقراطية ( 10 ) الوحدة الوطنية ( 11 ) الممارسات الخاطئة أو التجاوزات ( 12 ) التحدي الديمقراطي ( 13 ) تجربتنا الديمقراطية ( 14 ) انعكاس المناخات الدولية الضاغطة باتجاه إشاعة الديمقراطية ( 15 ) التعامل مع الديمقراطية ( 16 ) المسيرة الديمقراطية ( 17 ) مسارنا الديمقراطي ( 18 ) الحياة الديمقراطية ( 19 ) باتجاه تجديد الحياة البرلمانية ( 20 ) إلغاء الديمقراطية ( 21 ) احتواء الديمقراطية ( 22 ) المسألة الديموقراطية ( 23 ) ضغط شعبي شديد ( 24 ) ديمقراطية بلا ديمقراطيين ( 25 ) احترام القوى الديمقراطية ( 26 ) تجذير الديمقراطية ( 27 ) العمل الديمقراطي ( 28 ) المفهوم الديمقراطي ( 29 ) غياب الديمقراطية ( 30 ) تعتمد المبالغة في المديح والتملق ( 31 ) لا تعترض المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع ( 32 ) قضايا هامشية ( 33 ) الحزب الديمقراطي ( 34 ) الحزب الليبرالي ( 35 ) المجاميع الحزبية غير الديمقراطية ( 36 ) الموضوع الديمقراطي ( 37 ) نخب سياسية ( 38 ) مجتمع ديمقراطي ( 39 ) تقليص حجم المتوسطة ( 40 ) زادت الاختلالات ( 41 ) توظيف فرص السلام .

ما سبق بعض مفردات الحوار وهذه المفردات لا يمكن استخراج معناها من قواميس اللغة عربية كانت أم أجنبية وإنما هي في الواقع مصطلحات سياسية ذات دلالة تتجاوز لغتها إلى علاقتها أي ذات علاقات سيميوطيقية فقراءة مفردات الحوار تتطلب قدراً كبيراً وعالياً من الوعي فالنص يعبر عن ذهنية عند منشئة ـ دولة الأستاذ طاهر متعلقة بالواقع ولكن القارئ من خلال علاقته مع النص فقط ، يحاول أن يفهم المدلولات التي يريدها من أنشأ النص ليتأتَّى له فهمه أي محاولة استخراج العلاقات من الواقع ثم إدراك الدلالات .

الحوار كله يعالج مشكلة موجودة وجوداً حياً في واقع الأردن وهي ليست أزمة حكم بل هي قضيةٌ كبرى متعلقة السياسية العليا للأمة التي هي تحقيق الأمة لوجودها الحقيقي بهويتها وسماتها وحركتها . وتحديد هذه الأمة أمرٌ مُخْتَلفٌ عليه اختلافا تاما فهل هي الأمة السورية ؟ أو الأمة العربية ؟ أو الأمة الإسلامية أو هي مجرد القطرية ؟ فالديمقراطية عاجزة عن تكوين رأي في هذه القضية .

وينتج عن هذه القضية مسار الوحدة فأمام الأردن السير نحو الوحدة أو الانكفاء القطري أو القطرية مع الانفتاح وعلى من يكون الانفتاح وكيف يكون ؟ وهوية الأمة ووحدتها تطرح رأسا علاقة الأمة مع الغرب مع ملاحظة أن الغرب يقف سداً منيعاً وسوراً حائلاً أمام الهوية والوحدة وبالتالي وُجد نظام ربط معقد لإبقاء العالم العربي ومنه الأردن في حالة التبعية ، وجود إسرائيل ، وجود الأمم المتحدة ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي وهنا في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تكمن المشكلة الاقتصادية المشكلة بهذه المحاور تتجاوز وقطر الأردن إلى كل دول الجوار بل وإلى النظام العالمي الجديد الساعي لقيادة العالم وإن لم يتحدد أسلوب القيادة رغم وجود كثير من الأمور الدالة عليه .

وبصورة إجمالية الديمقراطية لن تنقذ الأمة أو القطر الأردني من براثن الولايات المتحدة ، ولن تمنح الأمة أو القطر الأردني حلاً للمشكلة الاقتصادية ، لا حلاً جذرياً ولا غير جذري بل ستبقى المشكلة الاقتصادية كما هي بدون حل ، ولكنها تتأزم أو تختفي الأزمة مؤقتاً أي سيبقي الأردن في حالة تشبه حالة ولي عهد قيصر روسيا وتسلط راسبوتين عليه وراسبوتين هنا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فأين هو المخرج ؟ في المنظور القريب لا مخرج !


(5) ـ النخبة والتأثير في العمل السياسي

هل العمل السياسي هو عمل نخبوي ؟ هل دور الجماهير العريضة هو دور الأكثرية الصامتة ؟

أم دور الجماهيرهو الحالة الاحتفالية الممارسة للتصفيق ؟

من معطيات الحضارة الغربية للإنسان ، إن العمل السياسي عمل نخبوي ، ودور الجماهير هو دور إعلان التأييد ، أو هو الأفضل السكوت ، ولو قيل أن العمل السياسي هو عمل عام ، يجب يمارسه الكل ، وأن التفكير السياسي هو الذي يجب أن يمارسه حشد من المفكرين السياسيين أيكون هذا الكلام ممكناً ؟ وحتى يُمارس العمل السياسي من الجماهير لا بد من الجماهير لا بدّ من بناء الوعي السياسي الجماهيري العالم أي الانتقال من حالة التأييد العاطفي أو السكوت ، إلى التأثير والفاعلية من خلال الوعي العام .

يرى دولة الأستاذ طاهر المصري أن الجهاز الرسمي هو الجهة الوحيدة تقريباً التي تقوم بإفراز النخب والشخصيات العامة ويرى أن الخلل ليس في كون هذه النخب هي واقعياً تدور الدولة والحكومة ولا تدور حيث تكون المصلحة العاملة بل يرى الخلل في كون جملة النخب هي : أردنية المنبت فالمتواجدون في الواجهة السياسية وزراء أو نواب أو أعيان غير ذلك لم يأت بهم الناس وأنما أتت بهم الحكومة .

لم يأت الخطر السياسي للبلاد من الكيفية التي يجري بها إنتاج النخب السياسة بل جاء الخطر السياسي وتعمق وجوده من نظرية العمل السياسي على أساس النخبة والديمقراطية هي واقعها ترى أن العمل السياسي هو عمل نخبوي وبما أن الأنظمة في العالم الثالث والعالم العربي جزء منه منفعل بمفاهيم الحضارة الغربية . فالأمر الطبيعي أن تظهر النخبة كما يريدها المؤثر في الحكم ، ففي الديمقراطية الليبرالية تفرزها الشركات المالية ، وفي الماركسية يفرزها الحزب ، وفي العالم الثالث يفرزها النظام السياسي تلك هي حقيقة من حقائق الحياة يتعايش معها العالم اليوم .


(6) العمل السياسي النخبوي عمل ابتر !!!

إنّ العمل السياسي الحقيقي هو العمل الذي تباشره الأمة . والقرآن الكريم أشار إلى ذلك قال تعال (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ )) (القصص:5-6) . والآيتان ـ وأن كانتا نصاً في بني إسرائيل ؛ أيام بداية نبوة موسى عليه السلام ـ إلاَّ إنَّ خصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ من جهة ، والثانية أن الآية هي كاشفة لسنة العمل الحركي الإنساني ، فأركان العمل السياسي هي : فكرة سياسية ، وقيادة سياسية ، ومنقادون للفكرة عن وعي ، بواسطة القيادة ، والعمل السياسي يوجد بوجود أركانه : الفكرة , والقيادة , والأمة , ثم يأتي النظام والدولة بعد ذلك طبيعياً ، أما العمل السياسي النخبوي فهو حالة غير طبيعية ، وتحمل كل فيروسات الخلل .

الفكرة السياسية هي الفكرة العقلية أي توصل إليها العقل الإنساني بصفته يُمثل العملية المعرفية عند الإنسان أي أنّ الإنسان وهو ذات قادرة على تحصيل المعرفة ، وأول المعرفة العقلية أن يعرف نفسه ، بأن يجيب على الأسئلة الطبيعية التي تنشأ عنده ، وهذه الأسئلة الطبيعية هي : من أين أتيت ؟ ولماذا جئت ؟ وماذا يُفَعُل بي بعد الموت ؟ والإجابة أية إجابة عقلية صواباً أو الخطأ هي التي تحدد حل معرفي . يُبنى عليه أو ينبثق عنه المعارف والمفاهيم الإنسانية عن كيفية الحياة في الكون الذي يعيش فيه الإنسان وبالتالي يحاول أن يُسخِّرَ كونه ليمده بُسبل عيشه من حاجات وخدمات ويقوم من خلال معرفته باكتشاف خواص الكون ليتمكن من تسخيرها وبالتالي فالفكرة السياسية هي الداعية لتسخير الطبيعة وتعيين قوانين الحياة الإنسانية .

ولا يمكن فك الفكرة السياسية عن قيادة تقوم بإنشاء الأفكار ، وتمارسها عملياً فعلاً سياسياً ، غايتهُ إنتاج حياة إنسانية على أساس تلك الفكرة وبهذا تنشأ القيادة السياسية نشوءاً طبيعياً .

(7) القيادات السياسية

إن القيادات السياسية في الدنيا كلها منذ وجود المجتمعات الإنسانية وحتى اليوم ، هي ثلاثة أنواع فقط قيادة ذكية ، وقيادة ملهمة ، وقيادة مبدعة ، وأية قيادة دون ذلك لا تكون قيادة ، وإنما تكون إدارة تدبر الأمر لحسابها أو هي في محل التبعية لغيرها وقد يكون هذا الغير عدو الأمة ، والقيادة ليست فرداً ولا جماعة وإنما هي حشد من بني الإنسان يقود الجماهير بالفكرة السياسية فالقيادة عملها تكوين القناعات ثم قيادة العمل .

1 ـ القيادة الأولى هي القيادة الذكية ، وهي بمقام الرجل الذكي ، لديها إحساسٌ جماعي يتحدد واضحاً بالوعي ، وثروةٌ فكرية كافية ، واستعمال ذكي لهذه الثروة الفكرية في أوانها ، أي وأن لزومها بحيث يجعلها تواكب الأحداث ، وتسير مع الحوادث وفي مستواها ، ولا تسمح لنفسها التأخر عنها ، وقيادة على هذه الصفة وعلى هذه الجدية في الحركة تكون مجليةً في الأيام العادية أما إذا ادلهمت الخطوب تصبح بحاجة إلى بذل مجهود غير عادي حتى تحتفظ بزمام الأمور وتسير في قيادة الركب وتحافظ على المستوى القيادي كما هو دون أي خدش .

2 ـ القيادة الملهمة هي بمثابة الرجل النابغة ، إذ هو الأول في كل شيء ، يأبى أن يكون في مستوى الناس ، بل يحرص على أن يكون أوَّلَهُم وفي مقدمتهم ، ومثل هذه القيادة الملهمة طراز نادر ، تأبى إلا أن يكون الأولى في كل شيء ، في الفهم والإدراك والإتقان والجدية ، واجتياز العقبات والاضطلاع بالمهمات ، والقيام بالأعمال وغير ذلك ، مما هو موجود في حياتها القيادية ، ثم فوق ذلك تملك القدرة على رفع الهابطين ، وبعث الحركة في الخاملين ، وتقريب البعيد لقصيري النظر ، وتوضيح الرؤية لمن على أبصارهم غشاوة ، وعلاج المرضى المتبعين ، وإبعاد الأموات من بين الأحياء ، وهي إلى جانب ذلك تملأ عقول الناس حيوية وتفكيراً ، وقلوبهم عاطفة ، ونفوسهم ثقة ورضا وهي في شدة الأزمات وفي الأحوال العادية سواء ، تسير في قيادتها دون أن تشعر بالحاجة إلى بذل جهد غير عادي أو بأن الحملَ قد ثَقُل عليها لأن الشدائد هي التي تُشعرها بلذة القيادة وتجعلها تُحس بحلاوة أعبائها .

3 ـ القيادة المبدعة وهي بمقام الرجل العبقري ، طراز فريد متميز ، فالعبقري لا يرضى أن يكون أحسن الناس وفي مقدمتهم ، بل تأتي بأشياء جديدة لا يعرفها الناس ، فيحملهم لأن يسيروا عليها ، فهو لا يتقن ما عليه الناس ليكون أحسنهم فيها ، وإنما يغير ما هم عليه ، ويفتح لهم طريقاً جديداً ، ويدفعهم دفعاً لأن يسيروا فيه ولو كان في ذلك المشقة والنَّصب والبذل والتضحية ، فذلك القيادة المبدعة لا ترضى باتجاهات الرأي العام ، ولا بما عليه أفراد الناس ، فلا تفكر بأخذ قيادتهم ، وإنما ترتفع عن مستوى الناس وتنظر إلى ما وراء الجدار لتشرف على المجتمع ، وتبصر ما حال الجدار دون رؤية ، ثم تعمل لقلب ما عليه الناس وتغير اتجاه الرأي العام ، وبعد ذلك تحاول قيادتهم ،حتى إذا ما استر خصوا دماءَهم وأموالهم في سبيل الفكرة التي حملوها ، فضلاً عن تحمل المشقة والعناء ، حينئذ تكون قد تولت قيادتهم على أساس بذل المهج والأرواح والأموال عن رضا واطمئنان ، هذه هي القيادة المبدعة فهي لا تقود الناس بفكرهم ، وإنما تحملهم على تغيير أفكارهم ، ولا تسير فيهم في طريق الذي يسلكونه ، بل تجعلهم يسيرون في الطريق الأشق والدرب الأصعب ، وفوق ذلك تجعل ثمن سيرهم في هذا الطريق المشقة والعناء وبذل المهج والأرواح والسخاء بكل نفيس من الأموال ، ثم لا تكتفي بأن يكون السير في الأزمات كالسير في الرخاء دون فريق بينهما ، وإنما توجد المشاكل وتفتعل الأحداث والأزمات وتشعل الحرائق ، حتى تظل تسير في الصعاب لأن الحياة عندها جهاد في جهاد ، بشكل متواصل ومتلاحق ، لأن حقيقة الحياة هي التحدي والاستجابة للتحدي بالجهاد ، فالحياة الحقة إنما هي حياة جهاد . " المراد بالجهاد المدلول اللغوي أي بذل الوسع والطاقة وتحمل المشاق والمكابدة والمعاناة في سبيل نشر رأي أو الدعوة لعمل " .

ما سبق هي أنماط ثلاثة للقيادة السياسية ، وهذه القيادة ليست نخبة ، بل هي قيادة ، الفكر السياسي روحها ، وجسمها هو الحشد القيادي الذي تجسدت فيه الفكرة ، ومن هنا يدرك الناس جميعاً أن العالم الثالث يخلو من القيادات السياسية ، وإنما هي مجرد قيادات إدارية ، فقادة العالم الثالث ليس لديهم فكرةٌ سياسيةٌ أنتجها مفكروهم ، فهم في حالة فراغ وخواء الفكرة السياسية أمَّا قادة العالم الإسلامي خاصة والعربي على أخص الخصوص ، فهم لا يثقون بالإسلام كمبدأ عالمي إنساني للحياة والحكم وعلاقات الناس الخارجية والداخلية ، ولهذا ضاع الإسلام كفكرة سياسية وإنْ بقي كفكرة روحية خلقية وقادة العالم الإسلامي لا يرون في الأمة الإسلامية ، أنها أمة حائزةٌ على الشروط الموضوعية ، لتتحول إلى أمة قادرة على أن تتسنم مكان الصدارة اللائق بها بين الأمم الكبرى ، وقادة العالم الإسلامي سيطر عليهم الرعب وتسلل الوهن إلى قلوبهم من الدول الكبرى ، لأنهم لا يرون أنفسهم وأُمتهم من خلال قوة الفكرة ، بل يرون أمتهم وأنفسهم من خلال ما تملكه الدول الكبرى من معدات الدمار وتكنولوجيا التحكم ، والقدرات الفائقة في التحرك السياسي والتأثر ، ولذلك جعلوا ركيزة بقائهم في الحكم الاستعانة بالدول الكبرى والاستناد عليها ، ورفضوا الاستعانة بقوة بلادهم والاستناد إلى أمتهم ، ونتج عن خوفهم من الدول الكبرى أن خافوا من أمتهم بدل أن يخافوا عليها ، فتفننوا في إيجاد مؤسسات القمع الأمنية فما من دولة في العالم الإسلامي تخلو من عشرة أو أكثر من أسماء ومسميات لقوات القمع والأمن . ولقد كشف المهرجان الاحتفالي في جنازة رابين والذي كان للتأثر الأمريكي السبب الأول والأخير في إخراجه مقدار خوف ساسة العالم العربي من دول الغرب ومقدار تبعيتهم للدولة الكبرى .


(8) فن قيادة العمل السياسي

1 ـ إن العمل السياسي فن يتوجه للشعوب لقيادة عملياً ، ولهذا يختلف كل الاختلاف عن قيادة الأفكار النظرية ، فقيادة الأفكار النظرية يقوم بها الفيلسوف ، وأمَّا قيادة الشعوب فيقوم بها السياسي ، والمراد بكلمة الفيلسوف إنما هو المفكر الذي لا يمارس عملياً مهنة السياسة ، أما إن مارسها عمليا مع كونه مفكراً فإنه سياسي وليس فيلسوفا وإن كان من حيث حقيقة الذاتية هو فيلسوف ومفكر ، ولكن من خلال حقيقة العملية التي هي ممارسته للسياسة صار سياسياً مفكراً معاً .

2 ـ إن فن قيادة الشعوب فن يتصل بالحياة الصحيحة للمجتمع الذي يتميز بالحيوية بمعنى أن الأفكار التي يقوم بالعمل لها أو في العمل بها لا بد أن تنطبق على واقع موجود حي يحسه الناس وهو يجري بينهم فعلاً وَحينَئذٍ بصرهم عليه فيلمسونه بأصابعهم وبذلك تكون القيادة حيةً .

3 ـ إن قيادة الشعوب هي ذروة الأعمال السياسية ، ولا يصل إليها أحداً إلا بقيامه بالأعمال السياسية ، ولا بتأتي القيام بها إلا بالقيام بالأعمال السياسية فالعمل السياسي هو الطريق لقيادة الشعوب ، وهو عينه الأداة التي تتكون منها قيادة الشعوب ، والروح التي تبعث الحياة والنشاط والسير في أعمال القيادة .

4 ـ منطق السياسي منطق حي حار شديد التعقيد وهو عملي له واقع أو يجب أن يكون له واقعٌ ، أي أن العمل السياسي حالة عملية وليس حالة نظرية فقط ، وليس من هم السياسي المحافظة على الأساليب والوسائل مادامت تلك الأساليب والوسائل جائزة ، ولكن من همه المحافظة على الأهداف ، فشروط الحيوية اقتضت عدم التقيد بوسائل وأساليب ، ولكن من شروط بقائه سلامة الأهداف تامة من غير خدش أو انحراف .

5 ـ العمل السياسي هو اعقد مهنة وأدق أداة عرفها التاريخ البشري ، ولهذا يكون السقط كثيراً فيه كثيراً ، ويكون الفشل أكثر وأكثر ، فالعمل السياسي عبارة عن محاولات متعددة بصورة متلاحقة ، فشروطها التعدد والتلاحق من أجل التأثر والنجاح ، ولا بد من إدراك أن نسبتها في النجاح تبلغُ على أعلى تقدير محاولة واحدة من أربع محاولات .

6 ـ العمل السياسي يبدو من بعيد أنه عمل سهل يسير ، أو يخيل لكل إنسان يعيش بعيداً عنه لعبة الأطفال ، ولكن الإنسان لا يكاد يتصل به وينغمس في صميمه ، حتى يصيبه الدوار تصطدم أفكاره مع عواطف الناس وشهواتهم وموروثاتهم ، والحال التي ألفوها ، وتتعارض مع موجات المصالح ورغبات الناس ونزعات التمرد والتقلبات النفسية الجماعية والفردية . فالعمل السياسي يمارسه بشر على بشر هم أصحاب نفوس خفيفة المسالك ، متشعبة الدروب معقدة التركيب ، لا يمكنه أن يحيط بها علما سوى خالقها وهو يريد أن يخضعها لأفكاره وأن يكفيها بحسب أفكاره ، فيجري الاصطدام الفكري الذي لا بد أن ينتهي وتنجلي المعركة فيه بانتصار السياسي ، أو بانتصار رغبة الجماهير فإن كان إيماناً وبذل طاقته انتصر فكره ، أن كان هذا الفكر حقائق لها واقع أو مما يجب أن يكون له واقع ، واستطاع أن يجعل الناس يلمسون فكره ويدركونه ، أما أن كان مجرد محترف سياسي تراجع تحت اسم فلسفة المناورة ، أو برز تراجعه باسم متطلبات المرحلة أو الواقع ، مع أن الوقائع السياسية في حالة تغير يومي ، فإنه في هذه الحالة يكون فعلاً قد تحققت هزيمته ، وانتصار المصالح والشهوات ، وفي كلتا الحالتين لم يتم العمل السياسي إلا بعد معركة عنيفة قاسية (صراع الفكر) ولذلك كان العمل السياسي من أصعب الأعمال .

7 ـ السياسي هو الذي يعيش على أعصابه ، ويحتاج إلى قدر كبير من الرصانة والهدوء والذكاء والفطنة واليقظة الدائمة وقوة اعتبار الذات ، دون حالة غرور وتعاظم للذات ، فلا بد من إدراك الفرق بين الحالتين ، كل ذلك ليتمكن من سير أغوار المشكلات التي تعترضه ، إذ في ميدانه يتلاقى الغباء القوي والذكاء الخبيث والمصالح المتعارضة ، والسطحية القاتلة والمفاجئات غير المرتقبة ، وهو دائما يسير في طريق مملوءة بالزوايا والمنعطفات ، ولا يدري من أي زاوية سيفاجأ بمكروه ، ومن أي منعطف سيلتقي بعقبة ، ولذلك لا بد أن يتميز بإدارة نضال وعزيمة مصممة ، مع إيمان بأفكار إيماناً لا يتطرق إليه أي ارتياب ، وثقة مطلقة لا حد لها بنفسه وبقدرته الفائقة إذ أنه كان سياسياً من أجل أفكاره ، ولذلك يجب عليه أن يعيش من أجلها ، وعلى أساسها ، وهو بما أوتي من قدرة يستطيع أن يختار من الوسائل والأساليب ما يعتقد أنه صالح للفعل الذي يقوم به ، ويعلم أن اختياره هذا إنما هي مسؤولية ، والمسؤولية ليست عملاً تكراراً بل هي عملية إيجاد مستمر ، وفي استمرار الإيجاد يتجلى ألهم والاهتمام والخوف من النتائج وغموض ميدان المعركة التي يخوضها صاحب الاختيار .

8 ـ السياسي مناضل مستمر النضال ينزل معركته السياسية بكل قواه دون أن يترك أي احتياطي فإذا تحققت له الهزيمة اعتبر هزيمته خسارة معركة لا خسارة حرب ، ولذلك يستأنف النضال ، في معركة ثانية مهما تبقى لديه من قوى ، وإذا خسر جميع قواه جمع من القوى ما يمكنه استئناف النضال فيستأنفه مهما جمع منها دون انتظار لقوة أخرى ، لأن تلاحق المعارك هو الذي يُمكِّنه من السير وجمع القوى .

تلك هي شروط العمل السياسي الفعال القادر على التغيير والصراع من أجل العمل السياسي المؤثر في الموقف الدولي ، وهو حالة نضالية تضم الفكرة والقيادة والجماهير ، حيث أن العمل السياسي بدون ذلك هو عمل سياسي مظاهراتي وبالتالي يسير بالأمة إلى الهاوية ، وهذا ما يقع الإصبع على مدلوله منذ أن وجد العمل السياسي النخبوي العربي ، أي منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى اليوم ، وها هو القرن العشرين ينقضي ، وحاولنا بالأمس أحسن وأحلى من اليوم ، لأننا باشرنا السياسة عبر مفاهيم وأشخاص ووسائل وأساليب ترجع بالأمة القهقرى دوماً .


(9) البرلمان والصحافة والحياة الحزبية

هل يمكن أن تنشأ حياة سياسية حقه من خلال تقوية دور البرلمان وتفعيل رسالة الصحافة وإعطاء الحياة الحزبية المتواجدة على الساحة الأردنية دوراً بارزاً ؟

دولة الأستاذ طاهر المصري يقول في نهاية جوابه على السؤال الحواري الأول : " ولم يعد خافياً على أحد أن مسارنا الديمقراطي يمر حالياً بمرحلة انحسار وتراجع بدليل ما نشهده من أضعاف لدور البرلمان وتبهيت لرسالة الصحافة وتهميش الحياة الحزبية . فالأستاذ طاهر المصري يرى لزوم تقوية دور البرلمان وتفعيل رسالة الصحافة وإعطاء الحياة الحزبية المتواجدة على الساحة الأردنية دوراً بارزاً .

لكن من هو الذي أضعف دور البرلمان ؟ ومن الذي جعل رسالة الصحافة باهته ؟ ومن الذي همَّشَ الحياة الحزبية ؟ لماذا كان البرلمان والصحافة والأحزاب في محل التأثر بدل التأثير ؟ والمفعولية بدل الفاعلية ؟ أيراها مجرد تغول الحكومة على ثلاثية . لكن لماذا كانت هذه الثلاثية ضعيفة المناعة ؟ أي أنها على استعداد لقبول المتغيرات حتى لو كانت نحو الأدنى ؟ هل هي لقمة العيش ؟ لكن لماذا من ( حالهم عسل وسمن ) قبلوا سواء كانوا برلمانيين أو صحافيين أو قادة أحزاب هذا الانحسار وتلك الحالة من التراجع ؟ وهل أداء المعارضة هو أداء مؤثر ؟ أم هو من باب رد العتب وإقناع الناخبين بانتخابهم مرة أخرى كصوت ضد الحكومة ؟ من الذي همَّشَ الأمة كلها (من المحيط إلى المحيط)على رأي الإسلاميين ؟ ومن ( المحيط الهادر إلى الخليج الثائر)على رأي أصحاب مقولة العرب أمة ذات رسالة خالدة ومن ( طورس إلى صحراء النفوذ ومن جبال زاغروس إلى البحر المتوسط ) على رأي القوميين الاجتماعيين (الحزب القومي السوري) .

إنَّ تهميش الأمة تم من خلال قمع السلطة وتضليل النخب السياسية التغريبية (القوميين واليساريين) ، وتجهيل الإسلاميين أصحاب العمائم واللحى لها . كل ذلك جعل الأمة حيةً ميتةً ، أمواتاً وإن لم يدفنوا ، جثثاً ترسف في أسر القيود ، وتماثيل اجتوتها الأعين ، عبيداً لكل من يريد ، تستأجر للرقص والغناء والبكاء ، تأكل كل فتات الموائد بعزتها ، المشكلة هي الأمة يا دولة الأستاذ طاهر فكيف نبعثها من جديد بعثاً حقيقياً ؟ بعثاً لا يكون سورياً ولا عراقيا ! ولا ناصرياً ؟ ولا صدامياً بل بعثا يغير مسار التاريخ المعاصر كليا .


بقي الكثير لم يقل هذا القليل يكفي

مع تحياتي