الفكر الاسلامي بحث في كيفية التفكير
بسم الله الرحمن الرحيم
الفكر الإسلامي
بحث في كيفية التفكير
أمين نايف ذياب
مقدمة
إنَّ الاعتقاد التصديقي التسليمي الناتج عن الموروث الديني ؛ يشكل حاجزا يحول بين الإنسان والتفكير المنتج ، والتفكير المنتج من شأنه أن يقدم نفسيرا للوجود من جهة ، ومن ثم نسيير عجلة الحياة علة هذا الوجه أو ذاك الوجه [ أي تعيين ما يسمى وحهة النظر ] لقد ندد الإسلام بمن يأخّذ دينه بالتسليم أو بالموروث ، أو قيام الإيمان على أية صورة غير صورة الدليل ، فلا الهوى ؛ ولا الظن ؛ ولا القبول بقول الأحبار والرهبان ، كل ذلك لا ينجي من المسؤولية أمام الله ، قال تعالى في أية من آيات القرآن الكريم منكرا التسليم : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الحجرات:14)
وفي آيات متعددة منكرا اتباع الأباء :
1.( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (المائدة:104) .
2.( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (الأعراف:28) .
3.( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) (يونس:78) .
4.( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (الأنبياء:51- 54) .
5.( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (الشعراء:69- 74) .
6.( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (لقمان:21) .
7.( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (الزخرف:22) .
8.( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (الزخرف:23) .
وقد ندد القرآن الكريم بمن اتبع الظن في إيمانه إذ ورددت آيات عديدة في ذلك قال تعالى :
1. ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (الأنعام:116) .
2. ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) (الأنعام:148) .
3. ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) (يونس:36) .
4. ( أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (يونس:66) .
5. ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) (النجم:23)
6. ( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (النجم:28) .
7.( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (صّ:27) .
8. ( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) (الجاثـية:32) .
إنَّ الإيمان بالدين الإسلامي لم يكن في الماضي مانعا من نمو المعرفة ، بل كان داعيا لها قال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )) (الزمر: من الآية9) ولا يجوز أنْ يكون في الزمن الحاضر عاملا على كبت تساؤلات الفكر الإنساني بسبب ما استجد من نظريات فكرية حديثة . أهمها تلك التي تنسف موضوع الإيمان بالخالق أي معطيات الدين من أساسه ، وتدعو لأخذ الحقائق من معطيات العلم التجريبي ـ مع الزعم بأن العقل هو المستند للعلم ، بخلاف الدين فهو لا يستند للعقل ، ولا إلى ما يمليه واقع الإنسان الحياتي والتاريخي .
وإنسان اليوم الذي يعيش معطيات عصر التقنية والتقدم الهائل في ثورة المعلومات والاتصالات ، الأمر الذي يجعله ينعم بحضارته المادية الزاخرة بالمخترعات المتنوعة يسيطر بها على الطبيعة ، ويحاول مد سلطانه على الكون خارج كوكب الأرض ، أصبح يعطي للفكر الأهمية التي يستحق .هذا الشباب المتفتح على الحياة المادية ببهارجها وتنوع مغرياتها ، لم يعد يستطع حبس أفكاره وقوقعتها ضمن المقولات الإسلامية ذات المنهج الوعظي ، أو المقولات ذات الصبغة الدينية الرافضة لتفعيل نظام الحياة ، مغمضاً عينيه عن شمس الواقع ، وصاماً أذنيه عن الأفكار والثقافات المختلفة التي تهب عليه من كل جهة ، وتقرع سمعه كل يوم .
إنَّ النظريات الأيديولوجية ـ على اختلافها وتناقصها ـ تعطي للشباب في الجامعات كمواد فكرية ، وتنمي التفكير عندهم ، وتصبح جزءاً من مفاهيم الحياة التي يعونها ، إن لم تستطع أن تكونها كلياً .والمدارس الثانوية قد أعدت الشباب لمعارف شتى في العلم والفلسفة والتاريخ وسائر الثقافات المستجدة على أسس توجب استعمال الفكر ، وتجعل منه الوسيلة الوحيدة لتفسير الوجود ، وتسخير الطبيعة ، ومعرفة المصير .
أما الدين ـ المقصود الدين الإسلامي ـ إذا ما كان له دور في مواد الدراسة المتشعبة والمعقدة ، فدور ثانوي ، ويعطى كمادة خالية من كل فكر ، يعطيها أستاذ الجامعة وهو غالبا من حملة الدكتوراه بواحد من العلوم الشرعية بصيغة تصديقية ، وبشكل مسلمات ينقصها البعد الفكري . وطبيعي أن لا يكون هذا نقصاً في الدين بقدر ما هو عيب في وسائل عرضة وإعطائه. وكأن مدرس الدين وحملة رسالته والدعاة إليه ـ المقصود حملة الدين الإسلامي بوجه خاص لم يعوا حقيقة إنسان العصر والمسائل التي يفرضها عليه العصر من جهة ، ومن جهة ثانية أغمضوا أعينهم عن مشاهدة شمس الواقع ، فأبقوا الدين الإسلامي في مستوى ينخفض مئات للسنين عن مستوى مشاكل العصر وقضاياه المستجدة . ولم يقدروا على تجاوز القرون الإسلامية قرون الشروح والهوامش القرن الحادي عشر الميلادي فما بعده .
لقد تميزت القرون الخمسة الأولى للحياة الإسلامية بنمو المعرفة في جميع حقولها ، وإذ توقفت المعرفة ؛ بمنع التفكير ؛ وإغلاق باب الاجتهاد ؛ منذ صدور الوثيقة القادرية ، ومع أنهم يتباهون بمعطيات الفكر الإسلامي في تلك الحقبة الغابرة ، مختتمين بها المعرفة. لكنهم ظلوا قابعين في وادي الأمجاد دون محاولة قراءة معارف تلك القرون قراءة نقدية ، ولهذا لم يتمكنوا من دخول هذا الزمن ، ولا إسماع أصواتهم ـ وما أشدها هديراً على المنابرـ إلى شباب اليوم . وحيل بينهم بحجاب ، لم تستطيع كلماتهم ـ رغم زخم دوي بعضها وصدق لهجة بعضها ـ أن تخترق تفكير الشباب وتصل إلى مسامع هذه الأجيال المعاصرة ، وتدخل إلى عقولهم ، فلا سحر البيان ، ولا صدق اللهجة ، ولا الوعد والوعيد ، وما فيهما من ترغيب وترهيب ، قدرت على أن تغير من هذا الواقع شيئاً . واتهم الدين بالقصور، وفكره بالعقم ، وظل الشباب عنه في غربة ، وعقولهم في تشتت وضياع ، تبحث عن كل جديد ، وتلهث وراء الحقيقة ، مستقصية ما استجد من حضارة ؛ علها تجد ما يروي نهمها الفكري ويعيد إليها طمأنينة المعتقد . ويزيد الابتعاد عن الإسلام الحضاري حالا بعد حال ؛ وما سموه صحوة لم تكن عودة لدين الحياة ؛ بل لدين العبادات والنسك فقط .ويقوم نشطاء الوعظ ـ وهم أهل لسانة وقصص وعظية ـ بالعمل على إرضاء ذوق المؤمنات الساذجات ، والمؤمنين الساذجين ، ليس بالدعوة التي تثير التفكير ، بل بالدعوة الصوتية التي تثير المشاعر ، ولا تحرك العقول ، يقومون بالشرح والدعوة لبعض القضايا التي لا تأتي على رأس سلم قيم الأعمال في الإسلام ، بل يمارسون الدعوة للتوجهات الفردية ـ القريبة من الطوبويات النصرانية والشكلية الدينيه اليهودية ـ مع ما يعلمون من تحذير الله للسائرين [على هدي نبي الهدى ] من السير على منوالهم قال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ )) (البقرة:120).
ويستمر إنسان خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس في ضياع . ويجعلون مفاهيم الضياع هي املهم المرتجى وصراطهم المستقيم [ويخص بهذا الوصف جملة الحركات الإسلامية على اختلاف مسمياتها وتعدد منهاهجها ، وليس لدى حملة رسالة السماء الأخيرة إلا التوهة والحيرة والتحسر ؛ والاستعاذة بالله من هذا الشر المستطير ، ومن عناد الشبيبة وانجرافها .
ما الحل إذاً؟
الحل موجود بين خيارين اثنين : الخيار الأول هو أنْ يلغي العصر فكره ، ويتحرر من قيوده ، ويرجع إلى منطلقات العصور الإسلامية الأولى لينعم بدفء الإيمان ، وطمأنينة المعتقد ، مبتعداً عن تعقيدات هذا الزمان ، فيلتقي مع حقائق الدين بالنظر العقلي البسيط ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية:17) ويعب منها ما احتاجه لبناء عقله على أساس هذا النظر البسيط ، فيكون في حاله مدركا للناحية الروحية في حياته ، ويجد فيها ما تعطش إليه فؤاده ، معتبراً وكأن هذه الحضارة ومنجزاتها الفكرية والمدنية لم تكن ، ملغياً تدريس ما استجد من معارفها ليعود إلى المنابع الأولى ويتخلص من حيرته .لكن المشكلة : أن هذا الحل البسيط قد استبدل عند دعاة الإسلام بنظرية غريبة على معطيات القرآن الكريم ، وهي الدعوة للدخول في سياج مقولات الأحبار والرهبان فصار النص اٌلإسلامي أسيرا لهم من وجهين : الأول حصره في مقالات العلماء السابقين ، والثاني تعطيله لمعطيات الحياة الفكرية والسياسية والثقافية والعلمية أي ( تسخير نظام الطبيعة لحياة الإنسان ) وتجميد الإسلام عند حد العبادات والهيئات والنسك وأخرجوه عن كونه نظام حياة .
وهذا ما لا يُشك عاقل باستحالته ووجوب بطلانه.
والخيار الثاني هو : أن يقوم رجال المعرفة الإسلامية بحمل أنفسهم على البحث ، ويتركوا عصر صدر الإسلام ـ مع وعيهم معطياته ـ ويمعنوا في إجهادها للوصول إلى معارف هذا القرن ، فيطلعوا عليها وعلى علوم أهل هذا الزمن ، ويعوا ما استجد من أفكار ، حتى ولو كانت منافية لأذواقهم ، ليتمكنوا من شرح مفاهيم الإسلام : بلغة الحاضر ، ويرفعون مستوى ثقافته ، فيصبحوا قادرين عندها على إيصاله إلى عقول ووجدان الأجيال الجديدة الضائعة الحائرة ، ويخاطبوا أفكارها المشتتة أمام النظريات المتنافسة أبداً ، ويسعون على اجتذابها والتأثير فيها ، عوض انهماكهم غير المجدي بمخاطبة العواطف التي أخذت بمغريات العصر واستهوت بمفاتنه ، وعندها يدحضون حجج المشككين والمغرضين الذين يتهمون الإسلام باللاعقلانية أي يالدوجمائية ، وبمناقضة مناهج الفكر ، وبالتقوقع ضمن غيبية قدرية تشد بالإنسان إلى التخلف ، وتبعده عن التطور والارتقاء ، حتى قرن الدين "بالرجعية" ، والإلحاد "بالتقدمية" ، فاختار إنسان اليوم [من يسمى مثقفا] الثانية طمعاً في ارتقاء حياته ، وإغناء وجوده : المادي والفكري ، وأقبل بشغف على الأيدلوجيات المستجدة التي أفرزتها الثقافات الحديثة ، يستعين بها على قَدَرِهِ كي يتحكم به ويكون هو سيد مصيره . ورفض أن يصنف في عداد "الرجعيين" يتشبثون بطوباويات لا ترضى عقله ولم تعد قادرة على إشباع حاجات نفسه .
خلاصة القول : أنَّ أحوج ما تحتاجه هذه الأمة هو شرح الإسلام بطريقة فكرية ، تجيب على تساؤلات هذا العصر ؛ ولكن لا لتتأثر بهذه الثقافة ؛ بل لتنتفع بها ؛ وفي نفس الوقت تتحصن الأمة ضد ما من شأنه أنْ يعرض هويتها للضياع ، أي لتعيد بناء عقل الأمة على طريق الحق ، وذلك بشرح الإسلام بحيث تدرك عقول الشباب المتعلم قضاياه ، وتطرحه كوجهة نظر تجيب على جميع تساؤلاته ، وتدحض الأفكار الإلحادية الدخيلة والأفكار الليبرالية بالدليل العقلي ، بحيث يعتمد آفاق العلم ، ويبعد الواقعية السكونية المدجنة عن التسلل لعقل الأمة ، ويجعل الفكر المنطق العقلي ( الدليل ) وليس المنطق الصوري وسيلة تشرح حقائق الإسلام ، حتى يغدو اعتناقه قناعة تنبع من وعي الإنسان وتفكيره ، وليس مجرد مسلمات دغماتية تناقض قواه العقلية ، أي علينا أن نُدْخل الإسلام إلى القرن الحادي والعشرين ليعيش تعقيداته ، ويجيب على جميع تساؤلاته ، ويحل مختلف مشاكله ، وبذلك يخرج الإنسان المسلم من صومعته واعتكافه ليعيش الواقع مؤثرا فيه ، ومشكلا له ، وليس مجرد متدين قاعد على الطوار ينتظر الخلاص القدري ، أي عليه أنْ يعاني مشاكله ، ويبادر إلى الإسهام في حلها والسيطرة عليها ، إننا نريد دين الحياة جنباً إلى جنب مع دين الجوامع والعبادات . نريد دين السماء ودين الأرض معاً في تلاق دائم . ولا يقولن قائل : إن الدين شيء والحياة السياسية شيء آخر ، الدين للسماء وللروح والآخرة ، وحياتنا الدنيا لها علاقاتها وواقعها الذي لا يتلاءم مع مثالية الدين . فالدين في حقيقته كلٌ لا يتجزأ [ يشمل تطلعات الإنسان بمجالاتها السماوية والأرضية ] ويجيب عن شتى تساؤلاته الفكرية ، وهو المعين الدائم عبر العصور والأزمنة ينظم كامل علاقاته الروحية والمادية ، شاملاً جميع نواحي نشاطه يرفده أبداً بالمعارف التي لا تنضب .
هكذا كان الدين الإسلامي عبر تاريخه . ولئن ظن مجحف غير ذلك ، فمرده إلى قصور في فهم الإسلام وليس في الإسلام نفسه. ومن يأخذ واقع هذا العصر مقياساً ليستنتج قصور الدين الإسلامي فهو واهم ، لأن تقهر المسلمين اليوم مرده إلى عوامل شتى ـ ليس هذا مكان بحث ذلك ـ تتعلق بتاريخ المسلمين السياسي ولا تمت إلى الدين بصلة ، إذ الإسلام ثورة فكرية دائمة العطاء ، تفعل في كل زمان ومكان ، وتستمر تعطي ما دام الإنسان ، وما استمرت الحياة .ومن الضروري التنويه بأن الأديان الأخرى : المسيحية ، واليهودية ، وغيرها من الأديان في كل مدارسها لا علاقة لها بوجهة النظر الحياتية ، فهي عاجزة عن مواجهة تعقيدات العصر .
لقد قصد من هذه الأبحاث أن ْتكون ـ بعونه تعالى ـ تعبيراً صادقاً عما يجب أنْ يؤمن به المسلمون إيمان المتيقن ، فكان لا بد من محاولة وضع الفكر الإسلامي وجهاً لوجه مع تجربة الفكر العالمي ، وقبول تحديات هذا القرن ، في سلسلة من الأبحاث ـ تتوخى الإجابة على تساؤلات الإنسان ، على ضوء ما استجد من نظريات ومعطيات علمية في حقول الفيزياء والبيولوجيا والفلك . ودراسة الأيدلوجيات دراسة فكرية والاطلاع على الرؤى الثقافية ، ومن فهم واقع الحضارة التي يعيشها المسلمون الآن .
والبحث الأول هو : كيف يجب أنْ تفكر الأمة ؟ أو كيف نعرف ؟
1 ـ يعقل العقل بطريقة ثابتة لا تتغير مهما تغير الزمان أو المكان وما يتغير هو حصيلة الإنسان المعرفية النامية دوما مع الزمن ، من هذه الحصيلة المعرفية وتوظيفها ومن تكرار استعمالها تتشكل طريقة تفكير عامة عند الأمة ، ومن خلال حسن استعمالها أو سوء الاستعمال يتكون الواقع الحضاري والسياسي الذي تعيشه .
2 ـ أن العقل يعقل وجود الأشياء ويعقل ماهيتها ويعقل صفتها . وهو أي العقل في حالة قدرة على إدراك ما يدل عليه واقع هذه الأشياء .
3 ـ للعقل مناهج في المعرفة تراوحت بين : الشكية الشاكة بكل شيء ، والاعتقادية المصدقة لكل شيء ، وغير هذه المناهج يوجد مناهج أخرى وسط بين الطرفين المتناقضين .
4 ـ للعقل الإنساني سبل يسلكها للحصول على المعرفة تختلف باختلاف الموضوع الذي يراد معرفته .
5 ـ يحتاج العقل إلى أساليب للوصول إلى هذه المعرفة .
6 ـ كثيرا ما يحتاج العقلً إلى وسائل وأدوات للحصول على هذه المعرفة .
7- لقد عُرِّفَ العقل عدة تعاريف وطبيعي أنَّه لا يجوز أنْ يكون للعقل إلاَّ تعريف واحد وهذه هي التعاريف لوضعها تحت البحث للوصول إلى التعريف الواحد .
· العقل : جوهر مجرد عن المادة في ذاته ، مقارن لها في فعله ، وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله : أنا .
· العقل : جوهر روحاني خلقه الله متعلقا ببدن الإنسان .
· العقل : نور في القلب يعرف الحق والباطل .
· العقل : جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف .
· العقل : قوة للنفس الناطقة وهذا التعريف صريح بأنَّ القوة العاقلة أمر مغاير للنفس الناطقة وأنَّ الفاعل في التحقيق هو النفس والعقل آلة لها بمنزلة السكين بالنسبة للقاطع .
· وقيل : العقل والنفس والذهن واحدة إلاَّ أنها سميت عقلا لكونها مدركة وسميت نفسا لكونها متصرفة وسميت ذهنا لكونها مستعدة للإدراك .
· العقل والفكر هو انعكاس الواقع المادي على الدماغ فيكون العقل عنصرا ثانويا مشتقا من الواقع .
·الفكر والعقل والإدراك بمعنى واحد وهو الحكم على الواقع بالمعلومات السابقة وهذا يقتضي واقع وإحساس به ونقل الواقع من خلال الحواس إلى خلايا الدماغ فيجري الربط بين الواقع والمعلومات عنه .
· العقل ما يدرك به حقائق الأشياء .
· العقل جملة من العلوم مخصوصة ، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال ، والقيام بما كلف به ، ولا يجوز الفصل بين الواقع والعقل إذ يؤلفان متصلان متجانسان ، الواقع المعقول يعني ، والعقل يدرك المعنى ، وهنا يحصل سكون النفس للمعنى وثلج الصدر للحكم الصادر هذا هو الطريق الوحيد للمعرفة الواحدة بين العقلاء ، وإذ لا يمكن قبول تعاريف العقل كلها ، فلا بد من البحث للوصول إلى التعريف الحقيقي للعقل ، وأول قضية لا بد من توجيه البحث نحوها هي : هل العقل يخلق مع الإنسان أم أن العقل مكتسب .
· العقل مكتسب والدليل على ذلك هو أنَّ الإنسان لا يلد عاقلا من ناحية رصد الواقع قال تعالى : ) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( (النحل:78).
· يكتسب الإنسان المعرفة فهو يتلقن في طفولته الأولى كلمات مثل ماما على اعتبار أنها أشد الناس التصاقا به فكلمة ماما عند الطفل هي من ارتبطت صورتها بإلقامه ثديها ليشبع جوعه ومثل هذا الإدراك ليس إدراكا عقليا بل هو مدرك غريزي ارتبط عنده بإشباع جوعه ولكن الأم التي تقدم الرضاعة الصناعية ترتبط صورتها مع تقديم زجاجة الحليب وهذا أيضا إدراك غريزي بتقدي مع الإ تسير.
البحث الأول
كيف نعرف
تعني كلمة المعرفة تلك الطاقة الإنسانية التي تبذل للإحاطة بحقائق الوجود ، جزئياً أم كلياً. ولبحث موضوع المعرفة يجد الباحث نفسه أمام ثنائية في جوهر المعرفة : أولهما الذات العارفة ، وثانيهما الشيء المعروف ، إذ أنَّ في كل عملية معرفة أمام ذات وموضوع ، ذات تعرف وموضوع يعرف ، والموضوع هنا محصور في العنصر الأول : أي الذات العارفة ، من حيث هي طاقة في المعرفة ، ما عناصرها ؟ وما وقدراتها ؟ وما حدودها ؟ وما طبيعة المعرفة ؟ هل هي حسية ؛ أم عقلية ؛ أم هي عملية مشتركة بين الحس والعقل ؟ وما هي الوسائل المؤدية إلى المعرفة الحقيقية ؟ وبالتالي ، ما هو ممكن ؛ وما هو غير ممكن في عملية المعرفة ؟قبل الشروع في مناقشة موضوع المعرفة والإجابة على ما تقدم من أسئلة لا بد من التنويه إلى ضرورة رفض المذاهب الشكية التي تنفي إمكان المعرفة ، وإلى تجاوز للمذاهب الإعتقادية التي تأخذها بشكل تصديقي ودونما تمحيص ، والأخذ بالمنهج النقدي الذي يؤمن بالفكر سبيلاً للوصول إلى الحقيقة .
لا بد أولاً من استعراض سريع لتاريخ هذه النظرية لوضع البحث في إطاره الصحيح وربطه بتجربة الفكر الإنساني عبر الزمن ، والبدء بمعرفة نظريات الفلسفة الحديثة التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، والتي انقسم فيها الفلاسفة حول نظرية المعرفة إلى : عقليين وتجريبيين ، فالعقليون وعلى رأسهم ديكارت الفيلسوف الفرنسي كانوا يعتقدون أن العقل وحده هو منبع جميع الأفكار ، وهذه الأفكار هي فطرية فيه ، وليست مستمدة من تجربة حسية ، بل يولد بها الإنسان ، وقد أودعها الله به كعلاقة صانع بصنعه . وهذه المدرسة العقلية لها جذورها الأولى في فلسفة أفلاطون ، الذي كان يعتبر الأفكار عبارة عن تذكرات لما كانت النفس تعرفه سابقاً في عالم المثل ؛ قبل مجيئها إلى عالم الحس . كذلك في فلسفة سقراط الذي كان يعتبر الحقائق حاصلة في العقل . ولتنبيه العقل إليها يقتضي اتباع طريقة فن التوليد ، أي توليد الحقائق من العقل ، أي طرح الأسئلة وترك العقل يجيب عليها بمفرده ودونما مساعدة خارجية .
لكن المدرسة التجريبية بزعامة جون لوك ودايفد هيوم نفت وجود الأفكار الفطرية في العقل واعتبرته صفحة بيضاء خالية من كل فكرة سابقة ، وجميع الأفكار إنما هي مستمدة من التجربة التي ترجع عندهم إلى أصل واحد هو الحس . وأنكرت قوانين الفكر مثل عدم التناقض والعلية وبالتالي فقد أنكرت كل معرفة ميتافيزيقية وحصرت الفكر في كونه تجريداً للواقع المحسوس . تذكر هذه المدرسة بآراء أرسطو الذي اعتبر أن المعاني العامة والماهيات أو الصور هي تجريد عقلي من الجزئيات والأفراد بواسطة الحواس . فليس شيء في العقل إلا وهو سابق في الحس .
ونقيضاً لهاتين المدرستين جاءت المدرسة النقدية ؛ لتبحث في حدود المعرفة الممكنة للإنسان ، على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ، فحصرتها بعالم الظواهر وحده، وسلكت طريقاً وسطاً بين العقلين والتجريبيين، فرأى كانت أنه لو كانت الحقيقة وليدة التصورات أو المعاني العقلية وحدها لما فشلت الميتافيزيقا وهي المجال الأول للمعاني العقلية الصرفية، كذلك فليست المعرفة وليدة التجربة وحدها وإلا لما وقع هيوم في الشك في المعرفة العملية عندها لم يجد الرابطة الضرورية التي تربط معلولاً إلى علته، واعتبر الرابطة السببية مجرد عادة تكونت في الذهن مستمدة من التجربة الحسية، مجرد سابق ولا حق يتعاقبان في التجربة، مما كون عادة قوية في النفس بتوقع لاحق عند رؤية سابق.
فرأى كانت أن هناك استعمالاً مشروعاً للعقل واستعمالاً له غير مشروع: أما الأول فهو في مجال العلم والرياضيات. وأما الثاني ففي مجال المعرفة الميتافيزيقية. فالعقل في استعماله المشروع يركب موضوعات المعرفة العلمية من عنصرين: الأول: قوانينه القبلية فيه، وفروضه التي يتقدم بها لفهم الطبيعة. والثاني: التجربة التي يختبر بها مدى صحة فروضه. إذن فالفكر عنده مكون من قوانين قبلية تنطبق على واقع خاضع للتجربة الحسية. وهذا ما يقصر المعرفة على ظواهر الطبيعة ويجعلها ممتنعة امتناعاً كلياً في مجالات الميتافيزيقا غير الخاضعة للتجربة الحسية، لأن الميتافيزيقيا لا تبحث الظواهر، وإنما يقتصر على الجواهر أو الأشياء في ذاتها كالله والنفس. وهذه ليست مادة للتجربة المخبرية يصوغها العقل في قوانينه القبلية وفروضه. ومن ثم فلا يمكن لعقل أن يجدها كمعرفة. لقد حصر كانت الفكر في المعرفة العملية التي هي معرفة بالظواهر، وأنكر المعرفة بالجواهر لاستحالتها على العقل، ومن الملاحظ أنه جعل المعرفة نسبية، أي أنها تتوقف على تركيبها العقلي بحيث لو كان هذا التركيب مختلفاً عما هو عليه لكانت معرفتنا شيئاً آخر.
هذا المذهب النقدي الذي جعل الجوهر أو الشيء في ذاته وإن كان موجوداً إلا أنه لا يخضع لأية معرفة، لأنه يمدنا بتأثيرات حسية عنه، أدى إلى المذهب التصوري عند تلامذة كانت أمثال فخته وهيجل، اللذين أبطلا الوجود الخارجي للأشياء، فلم يبقى عندهم إلا العقل وتصوراته. وابتعدوا عن العقل والتجربة إلى المثالية المطلقة، ومن ثم حذف العالم الخارجي وعدم الاعتراف إلا بالتصورات الذهنية التي حلت محل الأشياء هذا المذهب كان امتداداً للفلسفة العقيلية الخالصة التي لا يعنيها الواقع شيئاً وإنما تبحث عن هذا الواقع في الفكر البحث المنعزل. كذلك هو نقيض الفلسفة التجريبة التي تغفل واقعية العقل وتقصره على مجموعة من الصفات الحسية.
وهكذا نجد أن نظرية المعرفة كانت تتأرجح بين التصورية والواقعية، التصورية التي بدأت بديكارت وجعلت الوجود ملازماً للفكر أصلاً، إلى ربط الفكر بواقع الوجود الذي يعيشه ويعانيه الإنسان حقيقة، كالمدرسة الوجودية، إلى اتحاد الوجود والعقل أو الأشياء والفكر في كل واحد أو فكرة مطلقة كما عند هيجل الذي اعتبر أن هذا المطلق أو الكل هو حركة وتغير وتنام خلال الزمان والمكان، أي في الطبيعة والتاريخ حيث يستكمل ذاته عبر التفاعل المستمر بين الوجود والعقل. إذ الفكر عنده أساس الوجود ودعامته، لكن الفكر وحده بلا الوجود أشبه بالعدم، وهنا يختلف هيجل مع ديكارت، فهذا يعتبر الفكر هو الوجود "أنا أفكر إذاً أنا موجود" لكن الفكر عند هيجل عدم ما دام لا تعين فيه ولا تحدد له. لكن هذا الفكر ينطوي على نقيضه وهو العالم. وبالحركة الجدلية تجري المواجهة بين النقيضين فتتحدد معالم كل منهما وتظهر صفاته. فالعملية الفكرية التي ينتج عنها وعي هي إذاً عملية تناقض بين الأنا، بين الفكر والمادة.
بهذه الفلسفة الجدلية آمن ماركس. لكنه قلب هذه الجدلية العقلية إلى جدلية مادية. فالفكر الذي كان عند هيجل هو أساس الوجود، والعالم المادي الذي كان تحقيقاً لهذا الفكر عند هيجل هو أساس الوجود، والعالم المادي الذي كان تحقيقاً لهذا الفكر إذ يقف أمامه كنقيض له، أصبح الفكر عند ماركس هو نتاج المادة. فالعالم المادي الذي تنتجه حواسنا هو عنده الوجود الوحيد والحقيقة الثابتة، وما الفكر الإنساني إلا نتاج عضوي مادي لدماغ الإنسان، فليست المادة عنده الفكر، وإنما يرى الفكر هو اسمى نتاج المادة. فمادة ماركس الجدلية تفترض الفكر في المادة، كامنا في أعماق قوى الانتاج المادي. لذا فتطور المادة لا تطور الفكر هو الذي يتحكم في العالم، وطرق الإنتاج تحدد النشاط العقلي للإنسان، وبالتالي فالفكر هو انعكاس المادة على الدماغ.
ويذهب ماوتسي تونغ، أحد كبار تلامذة ماركس وشراح الماركسية، إلى أن الأفكار تأتي من الممارسة الاجتماعية، حيث ينعكس عدد لا يحصى من ظواهر العالم الموضوعي في عقل الإنسان عبر حواسه الخمس، فتتكون المعرفة الحسية في البداية، ثم تحدث لها قفزة إلى المعرفة العقلانية أي الأفكار. وهذه المرحلة الأولى من عملية المعرفة، عملية الانتقال من المادة الموضوعية إلى الوعي الذاتي، من الوجود إلى الفكر، ثم تأتي المرحلة الثانية من المعرفة، مرحلة الانتقال من الوعي إلى المادة، حيث توضع المعرفة التي تم الحصول عليها في المرحلة الأولى موضع الممارسة الاجتماعية للتأكد من نجاحها. وهكذا تتكرر العملية بالانتقال من المادة إلى الوعي، ثم من الوعي إلى المادة ثانية، أي من الممارسة العملية إلى المعرفة، ثم من المعرفة إلى الممارسة العملية. تلك هي النظرية الدياليكتيكية الماركسية.
إذا فالممارسة العملية هي أساس المعرفة بل هي أعلى من المعرفة النظرية، لأنها تمتاز بصفة الواقع المباشر ـ على حد قول لينين ـ إذ المعرفة عندهم تقسم إلى مرحلتين: مرحلة المعرفة الحسية، وهي التي تعلق بجزيئات الأشياء وظواهرها وروابطها الخارجية، ثم المعرفة العقلانية التي تدرك كليات الأشياء وجواهرها وروابطها الداخلية، حيث تتكون المفاهيم، ويجري الحكم والاستدلال، وكل من هاتين المرحلتين جزء من عملية المعرفة لا تنفصل أحدهما عن الأخرى. فالإحساس والعقل يختلفان من حيث الطبيعة، ولكن لا ينفصل أحدهما عن الآخر، حيث تجمعهما التجربة والممارسة العملية. فالتجربة المباشرة هي أساس المعرفة الإنسانية. ولكن يستحيل على الإنسان أي يجرب كل شيء بنفسه، فهو إذاً يحصل معظم معارفه من التجربة غير المباشرة ويقصد بها كل المعارف المكتسبة في العصور القديمة والمجتمعات الأخرى.
فالماركسية قد جمعت "المذهب العقلي" والمذهب "التجريبي" في كل واحد وعملية موحدة، لقد اعترفت للمذهب التجريبي بأن معطيات الحس تعكس بعض الحقائق في العالم الموضوعي، إلا أنها مجرد معطيات جزئية وسطحية، معطيات تعكسلا ظواهر الأشياء ولا تتعداها إلى دخائلها وخفاياها. فلا بد إذاً من قفزة من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية. لكن هذه المرحلة العقلية لا تعتمد على أفكار مسبقة في العقل (كما عند ديكارت) ولا على قوانين قبلية فيه (كما عند كانت) بل تبقى معرفة ناقصة لا تكتمل إلا بالممارسة العملية وبالدياليكتيك. فلو توقفت المعرفة عند المرحلة العقلية فإنها لا تتناول من المشكلة إلا نصفها، أي الحصول على المعرفة النظرية، فلا بد للنظرية من التطبيق والتجربة العملية لإثبات صحتها واغنائها البعد العملي الذي هو المحك النهائي للحقيقة، أو تعديلها جزئياً أو كلياً. فالمعرفة عندهم لم تعد استاتيكية (ثابتة) بل أصبحت دينامية متحركة، فلا نبلغها إلا بطرق الممارسة والتجارب المستمرة، وهذه العملية تجعل من المعرفة عملية لا متناهية لا تزال تتعمق في فهم الواقع الموضوعي أكثر فأكثر. ونظراً لأن حركة التغير في الواقع الموضوعي لا تنتهي أبداً، فإن المعرفة التي يكتسبها الناس عن الحقيقة خلال ممارسة العملية لا تنتهي كذلك. لذا فإن الماركسية اللينينية كما يقول مو: "لم تختتم الحقيقة، بل أنها تشق دون توقف الطريق لمعرفة الحقيقة خلال الممارسة العملية".
إن هذا الكل المطلق عند هيجل وماركس لا يحد الفرد الواقعي العائش فعلا مكاناً فيه ، ولا دوراً له، لاقي ردة فعل عند أصحاب المذاهب الواقعية. أهم هذه المذاهب هو المذهب الوجودي Existentialisme الذي اتهم الماركسيين بأخذهم بميتافيزيقا دغماتية (1) وبدياليكتيك للطبيعة وللمجتمع الذي هو جزء منها وإنكارهم الفكر للإنسان الحي. إذ إن دعامة علم الإنسان هي الإنسان نفسه "لا كموضوع للمعرفة العلمية، بل ككائن عضوي عملي ينتج المعرفة كلحظة من لحظات نشاطه". فالحقيقة هي حقيقة إنسانية فردية ينتجها عقل الفرد خلال ممارسة لتحقيق مشروع وجود الخاص، فقد أراد جان بول سارتر إدخال خصوصية الوجود الإنساني في مشمولية المعرفة وفي عالم التصورات الكلية. وقد سعى ـ وفق تعبيره ـ إلى تجديد الماركسية بإدخال الوجود المتشخص بالإنسان فيها، واعتبار الوعي الفردي نقطة الابتداء ومحور المعرفة، إذ إن المعرفة إنما تتأتى من وجود الإنسان واستفسار عن ذاته، ولا تكون معرفة نظرية من خلال تحققها في عالم الواقع كمعرفة عملية، دون أن تغفل لحظة عن الوعاء الذي يموج فيه نشاط الإنسان، أعني التاريخ، رادة الفكر إلى جذوره الأصلية في الواقع البشري، دون أن تنكر الجدل الماركسي مدعية أنها تزوده بالبعد الإنساني، وتربطه بالواقع الاجتماعي في إطار زماني ومكاني، ناظرة إليه في إحداثه وحالاته.
كذلك ظهرت مذاهب واقعية عديدة كردة فعل على التصورية المطلقة، كان أهمها المذاهب العملية Pragmatisme التي تربط المعرفة بالحاجات العضوية للإنسان. وأقدم هذه المذاهب العملية هو مذهب ارنست ماخ النمساوي والذي عرف "بالمذهب الحيوي" Biologique هذا المذهب يرى "أن المعرفة إنما هي تكييف ذهني للكائن الحي بالوسط الذي يعيش فيه". اذ أن القدرة العارفة عنده هي إحدى الوظائف البيلوجية لدى الكائن العضوي لتساعده على التكييف الملائم مع بيئته. لذا فالمعرفة الوحيدة لدى الإنسان هي تلك المتأنية له عن طريق حواسه. إذ لا يوجد وسيلة أخرى للمعرفة إلا الحواس، فالمعرفة محصورة عنده بمعطيات الحس والعلاقات القائمة بينها. وما القوانين العلمية إلا اختصار لعدد كبير من تلك العلاقات الحسية في علاقة واحدة كلية. وهذا الاختصار في الفهم أو الفكر إن هو إلا تكيف للكائن الحي بالوسط الذي يعيش فيه، فيجعله يدرك في علاقة واحدة ما تدركه الحواس في علاقات متعددة متباينة. هذا المذهب اشتهر في أمريكا على يد أشهر أنصاره وليم جيمس مؤسس علم النفس الحديث. فقد ذهب جيمس إلى أن قوانا العقلية هي إحدى جوانب الحياة النفسية، وهذه إنما غاياتها القصوى ووظيفتها الوحيدة بالنسبة لنا هي المحافظة على حياتنا والدفاع عنا أي أنها عملية كغيرها من الأعضاء. فالفكر إذاً خاضع للسلوك الذي يؤدي للمحافظة على حياة الفرد والدفاع عنه، فأصبح معيار الحقيقة عنده ما تؤديه فكرة من الأفكار من نتائج عملية أو ما تكسبنا من نفع في حياتنا. فلم يعد ثمة حقيقة استاتيكية (ثابتة) تعرف بمدة مطابقتها للواقع، بل أصبحت تعرف بالنظر إلى وظائفها وغاياتها العملية، أي بقدر ما تؤدي عملاً نافعاً وخدمة ناجحة للإنسان. فالقوانين العملية قوانين حقيقة لأنها تؤدي للإنسان خدمات عملية بتفسيرها ظواهر طبيعية، وتمكين الإنسان من إخضاعها والاستفادة منها وتسخيرها لمصلحته. وما يقال عن العلم يقال عن الدين، فالأفكار الدينية تعتبر حقيقية بقدر ما تؤدي إلى نتائج عملية تبعث الطمأنينة في نفوسنا والأمل بحياة أخرى سعيدة لا نحصل عليها عن طريق الإلحاد.
هذا العرض السريع لما أنتجه الفكر الإنساني عبر التاريخ في ما اصطلح عليه بنظرية المعرفة، يجعلنا أمام رؤيا واضحة ننكلق منها للوصول إلى الحقيقة التي نبغي، وتجعلنا فوق أرضية صلبة للإجابة على السؤال الأول في بحثنا، ما هو الفكر؟ فالإجابة على هذا السؤال تميط اللثام عن كثير من خفايا هذا البحث الذي يعتبر الأساس لكل بحث آخر، لأنه المنطلق الأول لجميع مجالات نشاط الفكر الإنساني، والذي يبين بجلاء تام حقيقة الإنسان كطاقة دينامية فاعلة في الوجود ومنفعلة به.
تعريف الفكر :
نعرف الفكر بأنه حكم العقل على الوجود في تفرده وشموله. وهو بالتالي حكم العقل على ذاته من حيث هو وجود. فالذات العارفة هنا تكون في الوقت ذاته طاقة تعرف وموضوعاً يعرف، والأفكار ـ أو قل الأحكام ـ تكون بمجموعها ما اصطلح على تسميته بالمعرفة الإنسانية. فالمعرفة إذاً هي مجموع ما أنتجه العقل الإنساني من أفكار عبر تاريخه الطويل، مدعماً بالتجربة الإنسانية التي ترفده أبداً بموضوعات لا ينضب معينها ما دام الإنسان، ونعرف الحقيقة بمطابقة الفكر للواقع. فأحكام العقل تصدق إذاً بمقدار ما لها من وقائع تبرهن مدلولها.ما دام الفكر نتيجة للعقل، فعلينا إذاً أن نتحرى هذا النبع لنتبين حقيقته كطاقة إنسانية تنتج أفكارنا ونحكم بواسطتها على الوجود وعلى ذواتنا.
فالعقل هذه القيمة الإنسانية الكبرى هو النور الذي وضعه الله في الإنسان ليعرف ذاته ويعرف غيره وبالتالي يعرف خالقه. فلا شيء يصلنا بالله مصدر هذا الوجود إلا نور العقل الذي هو القبس الإلهي فينا. فبالعقل عرف الإنسان علاقات المادة واكتشف قوانينها واستحلى خفاياها وأسرارها، مما مكنه من السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لنفعه وخيره وبالعقل نظم العلاقات الإنسانية وأقام المجتمعات البشرية ضماناً لوجوده وبالعقل استدل على وجود خالقه، وربط بين وجوده الفردي وهذا الكل الذي مصدره الله، فاطمأن إلى مصيره، وبالعقل وعي رسالات السماء التي ارتقت به من مجرد كائن عضوي، مشدود إلى التراب، إلى كيان روحي، متسامٍ إلى رحاب السماء. وبالفعل انتقل من مجرد كيان منفعل بالطبيعة وعناصرها، إلى كيان مسيطر عليها فاعل فيها. وبالعقل انتج الإنسان هذا التراث الفكري الضخم، الذي أرقى وجوده وأغنى تجربته ووسع مداركه.
إذاً ما هي حقيقة العقل؟
قبل الخوض في الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التنويه إلى أن جميع من خاضوا قبلنا في هذا الموضوع انصب جهدهم على البحث في الفكر ومصادره. هل هو من التجربة الحسية وخدها؟ كما عند التجربتين (لوك وهيوم). أم هل من العقل المحض؟ كما عند العقليين (ديكارت وتلامذته) أم هل هو من التجربة العملية التي تستند إلى قوانين قبليه في العقل كما عند كانت. أم هل هو تصورات بحته ينتجها العقل، كما عند هيجل. أم هو انعكاس المادة على الدماغ الذي هو جزء منها كما عند الماركسيين؟ أم هو ممارسة الوجود الفردي كما عند الوجوديين؟ أم هل هو وظيفة بيلوجية أو نفسية للدفاع عن الكائن العضوي كما عند ماخ وجيمس؟
لقد أحجم هؤلاء جميعاً عن الخوض في مضمار العقل كمنبع للفكر وتحليله إلى عناصره الأولى. أي أنهم اهتموا بإنتاج العقل ووظيفته ولم يهتموا بالعقل ذاته. ووقفوا عنده كسر من أسرار هذا الوجود، ولم يتمكنوا من الغوص في أغواره، أو إماطة اللثام عن حقيقته، شأنهم في ذلك شأن من يتتبع مجرى الماء حتى يصل إلى النبع فيتوقف بحثه واكتشافه ويكتفي بتحليل الماء الجاري ومعرفة صلاحيته ومدى نقائه وتقدير كميته، دون أن يكلف نفسه عناء التنقيب عن مصدر النبع، ومدى بعده في أغوار الأرض، ومصدر تموينه بالماء، وحجم تخزينه. أو يكون شأنهم كالعالم الذي يقول بأن الذرة هي مصدر الطاقة، دون أن يعني نفسه مشقة تحليلها إلى عناصرها الأولى ذات الفاعلية في تكوين الطاقة.لكي نتدرج نحو بلوغ حقيقة العقل لا بد من الوقوف أولاً على واقع العملية العقلية التي تساعدنا كثيراً في تحليله إلى عناصره الأولى، وبالتالي تمكننا من النفاذ إلى حقيقته والإحاطة بكامل أبعاده.
إذا أعطيت قطعة نقود لبنانية من فئة اليرة إلى إنسان لبناني سوي سبق له وعرف هذا من النوع من النقود، وقلت: ما هذه؟ فإنه يجيبك على الفور إنها قطعة نقود من فئة كذا من العملة اللبنانية.ماذا حصل في هذه العملية العقلية؟ لقد أصدر ذاك الإنسان حكماً عقلياً على قطعة النقود، وحكمه هذا تم بالطريقة التالية: لقد شاهد هذه القطعة وأخذها بين يديه وقرأ ما عليها وعرف نوعها وفئتها، أي عناصر إذاً تدخلت في هذه العملية العقلية؟أول هذه العناصر هو الحس، أي الرؤية واللمس.العنصر الثاني في العملية، هو قطعة النقود نفسها. إذ إن الحس ينقل شيئاً موجوداً محسوساً. فلولا وجود هذه القطعة لما تمكن أن ينقل شيئاً.أما العنصر الثالث في هذه العملية فهو الدماغ الذي تقبل معطيات الحس عن طريق الأعصاب، وهو مركز الانطباعات لكل ما تنقله الحواس الخمس فإذا لمس الإنسان تنطبع في الدماغ صور اللمس وإذا شم تنطبع في الدماغ صورة الشم الخ.. كما يوجد فيه قابلية الربط التي تنفرد بها الإنسان دون الحيوان والتي هي أساس الإدراك العقلي، ولئن اشترك الحيوان الناطق والحيوان الأعجم في شيء من ذلك ففي الإدراك الغريزي فقط.
لنتوقف هنا، ونأت بإنسان أمي من أفريقيا مثلاً ـ لا يستطيع قراءة الكتابة على الليرة، ولم يسبق له أن شاهد هذا النوع من العملة، ونطلب إليه معرفة هذه القطعة. فإنه، طبعاً لا يستطيع الحكم عليها ومعرفة نوعها وفئتها. مع أنه شاهدها ولمسها وتوفرت لديه العناصر الثلاث السابقة، أي الحس وواقع الليرة والدماغ. إذن فلا بد من وجود عنصر آخر في العملية العقلية، توفر لدى الإنسان الأول الذي عرف، ولم يتوفر لدى الثاني الذي لم يعرف. ما هو العنصر؟ إن الإنسان اللبناني سابق له وعرف هذا النوع من العملة. فربط بدماغه بين ما يعرف سابقاً وبين ما يحسه حالياً، فاستطاع أن يعطي حكماً صحيحاً. أما ذاك فلم تكن لديه تلك المعرفة السابقة، فلم يتكمن من إعطاء الحكم الصحيح ولو كان له أن يحكم، فلا يستطيع إصدار أكثر من حكم ظني، بأن هذه الورقة وقطعة المعدن قد تكون قطعة نقود، مقارناً إياها بما يعرفه في بلاده من العملات الورقية المشابهة، ولكنه لن يستطيع، في حال من الأحوال، الحكم على فئتها وعلى نسبتها إلى أي بلد.لذلك نستطيع أن نجزم بأن الحكم العقلي يحتاج إلى عنصر رابع لكي يكون حكماً صحيحاً، وهو معلومات سابقة عن الواقع، وهكذا فإننا نجد العملية العقلية مؤلفة من عناصر أربعة:
أولاً : واقع الإيجاب + النفي.
.ثانياً : إحساس بهذا الواقع
ثالثاً : معلومات سابقة عنه.
رابعاً : دماغ يربط بين الواقع والمعلومات السابقة .
مثال آخر :
لو جئنا برجل لم يسبق له أن اشتغل بالميكانيكا ولا قاد سيارة قط، وقلنا له: أصلح هذه السيارة المعطلة. وزودناه بكامل العدة اللازمة للتصليح. فهل سيتمكن من ذلك؟ طبعاً لا. لأنه ليس لديه معلومات سابقة عن السيارة، فلن يتمكن من إعطاء حكم صحيح على واقع العطل الذي فيها، إذ ليس لديه معرفة سابقة عن كيفية تشغيل أجهزتها، أي يبقى العنصر الرابع غائباً فلم تتم العملية العقلية وبالتالي لم ينتج عن تفكيره أي حكم صحيح.
ولو جئنا بعالم في القانون ووضعناه في مختبر للذرة. وطلبنا إليه إنتاج بضعة غرامات من المواد الذرية المشعة. فهل سيتمكن؟ رب قائل يقول إن هناك احتمالاً، ولو ضعيفاً، أن هذا الإنسان المثقف، قد يحاول، وقد ينجح بعد تجارب عديدة، في التوصل إلى أن ينتج شيئاً من هذا، مع أنه ليس لديه اختصاص في حقل الكيمياء. وجوابنا على ذلك: أن هذا الإنسان عندما يحاول التجربة، فإنه يستعمل ما لديه من معلومات بدائية سابقة قد يكون حصلها وهو في مراحل الدراسة المتوسطة والثانوية، فيحاول استعمالها مجرياً تجاربه التي قد تعطيه حظاً ولو ضئيلاً جداً في الوصول إلى غايته، بينما يستحيل عليه حتى مجرد المحاولة لو لم يكن كذلك.
ولو أعطينا كتاباً باللغة الصينية إنسان لا يعرف شيئاً عن هذه اللغة، فلن يستطيع أن يقرأ فيه، ولو بقي سنوات يقلب صفحاته ويتأمل حروفه، لأنه لا معلومات سابقة لديه عن هذه اللغة.مما تقدم نستنتج أن الدماغ هو العنصر الهام في العملية العقلية، ومهمته ربط معطيات الحس بالمعلومات السابقة عنها والمقارنة بينها لإصدار الحكم العقلي.
ولتسائل هنا :
إذا كان لا بد للحكم العقلي من واقع يستند إليه ومن إحساس ينقل هذا الواقع إلى الدماغ. إذن فما شأن الأفكار التي لا يقع عليها الحس ولا تستند إلى واقع مادي محسوس، مثل الذل والظلم والحق والخير والمحبة والبغض؟ وجوابنا على ذلك، أنه لدى الإنسان إحساس خارجي هو ما جاء عن طريق الحواس الخمس: البصر والسمع والشم والذوق واللمس.وهناك إحساس داخلي أو ما اصطلح على تسميته بالشعور، فحقاً نحن لا نحس إحساساً خارجياً بالخير مثلاً، ولكننا نحس به إحساساً داخلياً أي نشعر به وننفعل بنتائجه سلباً أو إيجاباً. وهذا الشعور ينتقل إلى الدماغ ليقارنه الدماغ بمعلومات سابقة لديه عن مواقع هذا الشعور، وتتم العملية العقلية عنه بإصدار الحكم العقلي الصحيح، ولا بد هنا من التمييز بين الشعور المباشر والحكم العقلي المستند إلى شعور.
فإحساسنا بالظلم نحو أمر ما هو شعور مباشر لا تدخل فيه العملية العقلية، وهو كالإحساس الخارجي بالشيء دون إصدار حكم عليه، أما حكمنا على هذا الأمر أنه ظالم أو غير ظالم فهذا يحتاج إلى العملية العقلية بكامل عناصرها، أي إلى واقع يتجسد فيه الظلم، وإلى شعور بهذا الظلم الحال بالواقع، وإلى دماغ يربط معطيات الشعور بما لديه من معلومات سابقة عن الظلم لكي يتم الحكم العقلي بأن هذا الأمر ظلم أم عدل. إن الاستيلاء على مال الغير بالقوة لدى القبائل البدوية، التي يسودها مفهوم الغزو، يعتبر عدلاً، وأن نفس هذا العمل يعتبر ظلماً في المجتمعات التي يسودها قانون المدنية، ومرد هذا الاختلاف في الحكم يرجع إلى المفاهيم أو المعلومات السابقة لدى الإنسان في كلا الحالين.
من هنا فليست الأفكار الميتافيزيقية التي ليس لها واقع من ابتداع المخيلة، هذه القوة التي تنتج أفكاراً غيبية لا تصمد أمام نور الحقيقة، وهي أشبه بأحىم اليقظة، تتبدد لدى حضور الحس واصطدامه بالواقع. فقول أفلاطون بنظرية المثل، وقول الفارابي وابن سينا بنظرية الفيض، لتحليل أصل الوجود وردة إلى الموجود الأول، أو القول بالعقول العشرة المفارقة وآخرها العقل الفعال الذي يمد عقول البشر بالمعقولات، هو قول باطل لأنه لا يستند إلا إلى الظن والخيال، لأنه ليس لديهم واقع ينطلقون منه في تفلفسهم هذا مما جعل فلسفاتهم تتهاوى أمام محل الواقع.لكن إنكارنا للميتافيزقيا ككل يورطنا في مشكلة إنكار الله والروح وهما من الموضوعات الميتافيزيقية الأولى. وجوابنا على ذلك أن الله واقعاً نستدل به على وجوده كقوة خالقة ومدبرة لهذا الكون، فوجوده إذاً لدى محك العقل حقيقة مسلم بها جاءت عن واقع محسوس هو هذا الوجود المتجسد، واستدل عليها العقل بإصدار حكماً متكامل الأبعاد الأربعة، ولم يبقى مجرد فكرة ميتافيزيقية أنتجها مخيلة الفلاسفة. أما البحث في صفاته تعالى وفي كيفية فهذه مما ليس له واقع حسي ولا يمكن أن تقع ضمن حكم العقل، ولا يجوز للإنسان التطاول إلى إدراكها، لأنها فوق نطاق عقله المشدود أبداً إلى الواقع. أما الروح فلها واقع يتمثل في عنصر الحياة فينا، وحلوها في البدن إنما يعطي وجوداً واقعياً لا مجال لإنكاره. أما محاولتنا البحث عن كيفيتها وماهيتها فهذا ما ليس له واقع وبالتالي لا يقع ضمن مجال الحكم العقلي.
بعد هذه الجولة، لا بد من التوقف قليلاً للإجابة على السؤال التالي:
ما هي المعلومات السابقة ومن أين جاءت؟
إذا كان لا بد للإنسان من معلومات سابقة لكي يفكر ويصدر أحكاماً صحيحة على الوجود، فمن أين يستمد معلوماته هذه، إن الإنسان يتعلم أي يأخذ معلوماته من ذويه ومن مدرسته ومن مجتمعه، فتكون لديه المخزون الذي يستعمله عندما يريد فهم من الأمور أو حل مسألة من المسائل، فنحن أبداً في عملية تعلم دائم من الحياة تأخذ منها ونجرب على الواقع ونستنتج ونحكم ونصحح أحكامنا ونزيد معلوماتنا. ونقدر ما نستوعب منها فإن طاقتها العقلية تقوي وتكبر، وما متابعتنا الدراسة في المدارس حتى نحصل أعلى الشهادات إلا في سبيل الحصول على مخزون أكبر من المعرفة يساعدنا على تفسير الواقع وفهمه، والإنسان المثقف هو الذي حصل على قدر كبير من المعارف، أي من المعلومات السابقة.
وهنا نجد التفاوت ظاهراً بين الناس من حيث حصولهم على هذا العنصر ذي الفعالية الهامة في حياتنا العقلية، ونتيجة له تتفاوت أحكامهم، ولما كان معين المعرفة واسعاً كان لا بد من تعدد الاختصاصات بين الناس المتعلمين، فهذا يحل أعقد مسائل الهندسة لتخصه بها، بينما لا يستطيع إنسان آخر تخصص في الطب أن يحل شيئاً منها، رغم أنه برع في مجال اختصاصه.فإذا كان إنسان العصر لا يستطيع الإدراك العقلي إلا بعد حصوله على المعلومات السابقة، فمن أين جاء الإنسان الأول بهذه المعلومات كي يدرك واقعة ويطوره، أو قل كيف انتقل من مرحلة الإدراك العقلي إلى مرحلة الإدراك العقلي؟ وهنا يقع التضاد بيننا وبين النظرية الماركسية التي ترى بأن الإنسان الأول إنما حصل معارفه وأحكامه على الوجود من خلال تجاربه، فهو قد وجد أمام الطبيعة وجهاً لوجه، فراح يجرب ويخطئ مستفيداً من أخطائه. لقد علم من التجربة أن هذا الحيوان مؤذ فابتعد عنه، وأن هذا لحمه لذيذة فاصطاده، وعرف أن هذا الثمر شهي فأكل منه وذاك ضار فاجتنبه، وهذه الخشبة تطفو على وجه الماء فاستخدمها لصنع سفينة وذاك الحجر المشحوذ يساعده على قطع بعض اللحوم وقتل الحيوانات فطوره حتى غداً بيده سكيناً يساعده في الدفاع عن نفسه ضد الوحوش الكاسرة ويسهل له قطع الهراوات والاصطياد، وقد عرف بالتجربة أن الالتجاء للمغاور والكهوف يقيه قسوة الطبيعة ويعصمه من الوحوش، فراح يطور هذه الكهوف حتى غدت له منازل. وهكذا قد ارتقى الإنسان من طور الحيوانية، حيث كان يعيش في الأدغال كواحد من قطعان القردة، إلى إنسيان يمارس الحياة الاجتماعية التي نعيش، إذاً فهو وفق هذه النظرية، قد حكم على الواقع من خلال انعكاس هذا الواقع على دماغه بواسطة الحواس دون أن يكون لديه المعلومات السابقة عنه.
وردنا على الماركسيين أن عملية التي يقوم على الواقع والإحساس والدماغ فقط إنما تبقى ضمن عملية الإدراك الشعوري أو الغريزي، ولا تتعداه إلى الإدراك العقلي. فالحيوانات مشتركة مع الإنسان بأن لها حواس ودماغاً ولكنها تبقى تتتعامل مع الواقع من خلال غرائزها وحاجاتها العضوية، ولا نرتقي إلى أكثر من ذلك. فعملية الحكم على الواقع لكي ترقى إلى مستوى الإدراك العقلي لا بد لها من معلومات سابقة تربط بينها وبين الواقع لينتج عن ذلك إدراك للواقع. لذلك فإن ما حصله إنسانهم الموهوم عن طريق التجربة الحسية لم يوصله قط إلى أحكام عقلية تطور مداركه وترتقي به، وإنما لا بد له من أن يبقى ضمن مرحلة الإدراك الغريزي مهما استمرت تجاربه مع الواقع، إذ إنه لا يعرف منه ما يشبع غرائزه ويحرك مشاعره، فهذا الثمر لذيذ وذاك مر المذاق، وهذا الحيوان مؤذ وذلك أليف.
إذن فالإنسان الأول قد حصل على معلوماته السابقة مما أعطاه الدماغ والحس ووهبة الوجود، من الله، لقد جاء في القرآن الكريم "وعلم آدم الأسماء كلها" "وعلم الإنسان ما لم يعلم". أي أنه علمه ما يكفي وعيه، وما يشغل عقله، وما يمكنه من أن يرتقي في الحياة، ويسيطر على الطبيعة، ويفهم واقعه ويعمل على تطويره والتحكم به. وطبعاً لم يعلمه كل شيء، بل أعطاه القبس الأول الذي أشعل فتيل عقله، وتركه يجرب ويكتشف ويتعلم وكان في حقب التاريخ المختلفة يمده بالتعاليم السماوية على يد الأنبياء والرسل فتكون تلك التعاليم تصحيحاً لمساره وعوناً في فهم العالم والتيقن من وجود خالقه. فالتجربة الإنسانية التي استندت إلى معارف أولية قد أغنت الفكر البشري عبر التاريخ، وكانت الرافد الدائم له في تحصيل علومه، واكتشاف أسرار الوجود، واختراع الآلات التي مكنته من السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالحه. كما طورت مفاهيمه وارتقت عقله وكانت الرافد الدائم لمعارفه المتنامية أبداً في رحاب هذا الكون شبه اللامتناهي.
وإذا قال قائل: لا يحق لك وأنت تبحث في أصل الفكر أن تعتمد نظرية تسليمية دينية لدحض فكر مادي لا يؤمن بالدين أصلاً، فردنا على ذلك أننا عندما قلنا بضرورة وجود المعلومات السابقة لإنتاج الفكر، إنما أخذنا لبحثنا الإنسان العائش فعلاً معنا والذي يقع ضمن متناول حسنا، ويمكننا من إجراء التجارب عليه، إذن فنحن قد اعتمدنا التجربة المحسوسة أولاً ومنها استنتجنا صحة النظرية الدينية، ولم نأخذ النظرية الدينية كمسلمة لتدعيم رأينا، أما الماركسيون فقد انطلقوا في نظريتهم من إنسان الأمس إنسان العصر الحجري، حفيد القردة، الذي نجهله كلياً والذي لا يمكنهم تدعيم رأيهم عنه بأي برهان تجريبي، فجعلوا ذلك الإنسان الغابر مقياساً لإنسان الحاضر، بينما أخذنا نحن إنسان الحاضر مقياساً نقيس عليه إنسان التاريخ، فنحن قسنا مجهولاً على معلوم، وهم قاسوا معلوماً على مجهولاً، فنحن قسنا الماضي الخفي عنا على الحاضر الواقع ضمن تجربتنا واختبارنا، بينما قاسوا هم حاضر الإنسانية وواقعها على ذلك الغابر المجهول، فنحن اعتمدنا التجربة الحسية منطلقاً لبحثنا بينما اعتمدوا هم نظرية تخيلية في تفسير قوي الإنسان العقلية، رادين ذلك إلى خضوعه لجبرية مادية باعتبارهم أن تطور وسائل الإنتاج هي التي تحكم عقل الإنسان وتعطيه قوالب أفكاره.
فالفارق بين لكل ذي وعي بين عقل إنسان بدائي من إحدى قبائل إفريقيا أو آسيا يعيش في مجتمع منغلق حرم من العلم وعاش في أمية كاملة، وبين إنسان دخل الجامعات وحصل معارف عصره، وهذا الفارق لا يعود في حال من الأحوال إلى عناصر العقل من إحساس ودماغ، فلربما يكون دماغ الأمي ذا طاقة أقوى من دماغ المتعلم، وحسه أسلم وأصفى، ولكنه بسبب عدم حصوله على المعارف أو المعلومات يبقى الفارق العقلي بينما شاسعاً، وكلما قوي استيعاب هذه المعارف لدى الإنسان كلما قوي عقله وتوسعت مداركه.إذن فالقول بأن الإنسان إنما حصل على الفكر عن طريق التجربة دون معلومات أعطيت له قبلياً يبقى قولاً نظرياً ظنياً لم تقم التجربة على صحته، وآن له أن ينحسر أمام شمس الواقع والبرهان الذي لم يعد ثمة شك بصحته، ومن هنا فالماركسية مدعوة لإعادة النظر في أصل نظريتها إلى الوجود، والاعتراف بأن لهذا العالم خالقاً مدبراً، وبأن لهذا الإنسان معلماً أول أمده بالمعرفة وهداة بنور العقل.
الموضوعية والذاتية في المعرفة:
هل المعرفة موضوعية أم ذاتية؟ أي هل نستطيع الوصول إلى حقائق ثابتة متفق عليها بين عقول جميع الناس، أم هل تبقى نسبته تختلف بين نتائج عقل ونتائج آخر؟ ومن أين تأتي الموضوعية للفكر إذا كان ثمة موضوعية؟ وما هي مقوماتها في العملية العقلية؟
لننظر في عناصر الفكر الأربعة التي ذكرنا لنتبين مدى الموضوعية في كل منها. فالعنصر الأول وهو الواقع لا شك في موضوعيته لأنه خارج عن الذات العارفة، أما الحس فهو أداة نقل لهذا الواقع مشتركة بين جميع الناس، قد تتفاوت قدرة ووضوحاً في نقل الواقع ولكنها لا تؤدي إلى تناقض ثابت في نقلها للمحسوسات الواضحة البينة، فهذا اللون الأحمر يراه جميع الناس أحمر، وهذه الشمس المشرقة تكون كذلك لدينا جميعاً، ورائحة البنفسج تختلف عن رائحة الثوم، وصوت الغراب يختلف عن صوت الكناري. هذا إدراك مشترك بين جميع الناس، ولا عبرة أن هناك مرضى في إحساسهم، فهؤلاء لا يشكلون القاعدة، بل يشكلها الأصحاء الذين يكونون السواد الأعظم بين المدركين.أما الدماغ، ذلك العنصر الثالث من العقل، فهو أداة ربط بين معطيات الحس والعنصر الرابع الذي هو المعلومات السابقة، فهو يصدر حكمه على الواقع من خلال الربط هذين العنصرين، وهنا يكون الحكم مختلفاً بين إنسان وآخر باختلاف ما لديها من معلومات.
لماذا إذن هذا الاختلاف في إصدار الأحكام العقلية بين الناس وما سببه؟ إن هذه المعارف التي نقلناها من المجتمع قد تغدو مفاهيم، أي حقائق ثابتة نسلك بموجبها، وتتحكم بكافة مناحي سلوكنا وهي بالتالي تتحكم بالعملية العقلية وبإصدار أحكام العقل، وعندئذ تتحول معلوماتنا إلى حقائق ثابتة توجه تفكيرها ونغدو رهناً لها، وتصبح عائقاً بيننا وبين الحقيقة، وتصبح أحكام العقل تدور في حلقة المفاهيم، ونبتعد من ثم عن إنتاج الأفكار الموضوعية الصحيحة، فالذاتية إذاً تأتي من العنصر الأخير، وهو المعلومات السابقة التي تحولت إلى مفاهيم تتحكم بسلوك الإنسان، ولسلامة أحكام العقل ينبغي لنا أن نتحاشى ما أمكن التقيد بدغماتية المفاهيم وأن نجعلها دائماً موضوعاً للنقد والتنقيح وهذا ما تنبه إليه العلماء فاشترطوا لسلامة أبحاثهم التخلي عن كل رأي سابق للوصول إلى الموضوعية العملية. فكوبرنيك الذي قال بنظرية أن الأرض تدور حول الشمس لم يكن ليصل إلى تلك النتيجة التي فسر بها ظواهر طبيعية كثيرة، كظاهرة الخسوف والكسوف، وتعاقب الفصول، لو بقي معتمداً على مفهوم عصره، بأن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها، والإنسان الذي يؤمن سلفاً بأن الله غير موجود لا يمكنه أن يصدر حكمه على قدسية الكتب السماوية وصحة ما جاء فيها. وهنا يأتي اختلاف الناس في أحكامهم العقلية وفقاً لاختلاف مفاهيمهم ومذاهبهم. فالشعوب البدائية كانت تفسر ظاهرة الخسوف بأن وحشاً يبتلع القمر، فتسلك وفق ذلك بأن تتجمع وتدق الطبول وتحدث صراخاً وضجة قوية تجبر هذا الوحش على التخلي عن ازدياد كوكبها الجميل ليبقى يضيء لها الليالي الموحشة، أما إنسان العصر الذي عرف ظاهرة الخسوف، فلم تعد تهمة إلا بمقدار ما يكون عنده من حب استطلاع لمراقبة حركة الأفلاك. وأما الإنسان المتدين فتحدوه هذه الظاهرة لتمجيد خالق الكون فيبادر إلى الصلوات والابتهال.
والاتصال الجنسي بين شاب وفتاة يعني، لدى شعوبنا الشرقية ذات المفهوم الديني والتي تقدس الأعراض وتحافظ على الشرف، جريمة قد تؤدي إلى ذبح الفتاة غسلاً للعار، بينما لا يحرك هذا الأمر ساكناً في وجدان الشعوب الغربية التي تخلت عن هذه المفاهيم، وهكذا فان جميع المعارف الإنسانية من سياسة وقانون وفلسفة وأيدلوجية وتفسير ظواهر التاريخ كلها تخضع لمفاهيم تبناها الإنسان من محيطه الاجتماعي والثقافي. لذلك ينبغي التخلي كلياً عن هذه المفاهيم، كمعلومات ملزمة لفكرنا، وأخذها بتجرد موضوعي، لنقيس عليها معطيات الحس، أي التحرر من تأثيرها في قوانا العقلية لكي نقترب من محراب الحقيقة عندما نصدر أحكام العقل على الواقع ويكون لتفكيرنا موضوعيته وتجرده.ولا بد هنا من التنبيه إلى أن للمشاعر الفردية والجماعية تأثيراً عكسياً في أحكام العقل. فشعورنا بالمحبة أو البعض نحو إنسان أو أمر ما يجعل أحكامنا عليه تتناقض تبعاً لهذا الشعور، فالذي يجب يضرب صفحاً عن عيوب محبوبه، والذي يبغض إنساناً لا يعود فيه إلا المثالب. وتوضيحاً لهذا الأمر فإننا نرد تلك المشاعر إلى مصدرين اثنين أولهما الغرائز والأحاسيس الداخلية، وثانيهما المفاهيم، فشعور العربي بالعداء نحو الإسرائيلي إنما مرده إلى مفهومه عن أن هذا الأخير إنما سلب أرضه وشرد شعبه، وهو يهدد وجوده بصورة دائمة، وشعور الروسي بالكره نحو القياصرة والإقطاعيين إنما تأتي عن اعتبار بأنهم تآمروا على مصلحته وانتزعوا حقوقه المشروعة. فالمشاعر سلباً كانت أم إيجابا تبعد عن جادة الصواب وتؤدي إلى تناقض أحكام الناس في الأمر الواحد. فعلى طالب الحقيقة التجرد ما أمكن عنها ليأتي حكمه مطابقاً للواقع بعيداً عن الشطط.
والآن سنتبين موقع هذه النظرية من سائر نظريات الفكر الأخرى:
مما تقدم نجد قد أنكرنا على المدرسة العقلية اعتبرناها بأن الأفكار فطرية في العقل قد أودعها الله فيه كعلاقة صانع بصنعه، مضيفين إليها تصورية هيجل وفخته، إذ لا أفكار فطرية في عقل الإنسان بل يوجد في دماغه قوة أودعها الله فيه تقوم على ربط الواقع بمعارف أولية عن هذا الواقع لتصدر حكم العقل.
كذلك نحن نلتقي مع المدرسة التجريبية بأن الأفكار إنما تأتي من التجربة الحسية، لكن الوقوف عند مرحلة نقل الإحساس لا تصل إلى مستوى الأفكار بل تبقى في نطاق الانطباعات الحسية التي نشترك فيها مع سائر الحيوانات، إذ الإحساس باللذة أو الألم أو باللون لا يرقة إلى درجة الفكر، وما هو إلا الجزء الأول منه، الذي هو الواقع والحس. ولكي يصبح الإحساس حكماً عقلياً يقتضي وجود الدماغ وربط هذه الانطباعات الأولية بمعرفة مسبقة عن الشيء المحس، فتذوق طعم البرتقالة لا يصل إلى درجة للتعقل، لكن معرفة ما نمضغه وما نتلذذ بمذاقه هو برتقال فهذا قد تطلب منا بالإضافة إلى ذوقنا وإلى البرتقالة كواقع معلومات سابقة عن البرتقال شكلاً ولوناً وطعماً، حتى استطعنا أن نصدر الحكم العقلي على ما نأكل. إذن فنحن معهم في كون معهم في كون الفكر هو تجريد للواقع المحسوس وليس فكراً غيبياً يأتي من عالم المجهول، أو ينبع من تصورات العقل نفسه مجرداً عن الواقع.كما نرفض ما جاء به ايمانويل كانت بأن في العقل قوانين قبلية تنطبق فقط على ظواهر الطبيعة، وتجعل المعرفة تابعة لتركيبنا العقلي، إذ لو كانت هذه القوانين في العقل لتساوي الأمي والمتعلم في حل مسائل العلوم التي يراها كانت النطاق الوحيد المشروع لعقلنا. ولما كان واقع الأمر عكس ذلك، أي أن الذي لديه معلومات سابقة وكافية عن علم الطبيعيات هو وحده الذي يستطيع ذلك. إذن فالمعلومات، وليس القوانين القبلية، هي التي تجعل فكرنا صحيحاً أو غير صحيح، قادراً على إصدار الأحكام أو غير قادر.
لن نتوقف عند باقي المدارس الفكرية لأنها من حيث مدلولها في تحليل الفكر لا تختلف كثيراً عما استعرضنا من نظريات، اللهم إلا المذهب الحيوي الذي وأن حصر المعرفة في الحس والتجربة، إلا أنه أعطاها بعيداً وظيفياً حصرها في نطاق المحافظة على حياة الإنسان ككائن بيلوجي، واخضع الفكر للسلوك البشري. فقوقع المعرفة وجعل منها عملية وظيفية بيد الحياة العضوية.
لننقل لإيضاح موقعنا من الماركسية التي تعتبر أرقى المدارس الفكرية في عصرنا.فرغم التقائنا معها باعتبار الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ وأن لا صحة للأفكار التي لا ينبثق عن واقع، وأن التجربة العملية والتطبيق تثبت صحتها وتعطيها البعد العملي الذي هو المحك النهائي للحقيقة، فأننا لا نقرها باعتبار الفكر هو نتاج المادة منفعل بها أبداً وكامن في أعماق قوي الإنتاج المادي، ومحكوم بتطور وسائله، ومقيد بدليكتيك مفروض عليه وخارج عن فرديته التي تخضع للكل الشامل.لقد انتزعت الماركسية من الفكر الإنساني حريته في الابتكار والسيطرة على الطبيعة، والتحكم بقوانينها وفق اختياره وطبقاً لمفاهيمه، وجعلت منه آلة بيد المادة العمياء، ينتج أفكاره مقيداً بأقدار فغداً أشبه بإحدى النباتات الحية، فهذه النخلة لا تنتج إلا بلحاً وفي بيئة حارة أما إذا غرستها في منطقة باردة فلا تنتظر منها ثمراً شهياً، وتلك التفاحة لكي تعطيك تفاحاً لذيذاً لا بد من وضعها في تربة ومناخ صالحين لتنامي شجر التفاح، وهكذا عندها فالإنسان الذي يعيش في مجتمع فلاحي ينتج أفكاراً غير أفكار الذي يعيش في مجتمع صناعي.فالماركسية قد أخذت إذن بميتافيزيقا دغماتية عندما قالت بجدلية تحكم الطبيعة والمجتمعات، التي هي جزء منها، بطريقة حتمية، وأنكرت تأثير الفكر الإنساني في التغيير، والتحكم بمسار الإنسانية، ورسمت الطريق سلفاً أمامها، فهي من جهة قالت باستمرار تطور الفكر الإنساني عن طريق الدياليتيك مع الطبيعة، وأنكرت إمكان الوصول إلى معرفة ثابتة (استاتيكية).
وجعلت من المعرفة مشروعاً لا متناهياً، وعملية متنامية عبر التاريخ، ومن جهة أخرى حكمت على التطور وحصرته في النظام الشيوعي أو حكم البروليتاريا، فلو أنها تركت حكاية التطور للدياليتيك ولم تجد شكل المجتمع وقوالبه سلفاً لظلت منسجمة مع نفسها.لذلك فنحن نرى أن الحقائق الإنسانية، كالسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلوم، تبقى في تطور مستمر، وهي فعلاً عملية تفاعل بين الواقع الاجتماعي، الذي هو في حالة تغير وتطور دائم، وبين الدماغ الذي تتغير مفاهيمه مع عنصر هام العقل وهو المعلومات السابقة والمفاهيم، تلك التي لا تزال في تنام مستمر، حيث تمدها التجربة الإنسانية والممارسة العملية بمعين لا ينضب. وهنا يبرز دور الإنسان كقوة فاعلة في التطور والتغير، متخيراً لعلاقاته مع الإنسان الآخر مع الطبيعة، غير محكوم بأي دياليكتيك لأنه هو صانع الدياليتيك.هنا نرانا نلتقي مع جان بول سارتر الوجودي باعتبار الماركسية "ينقصها البعد الإنساني وتفرض شمولية تصوريتها على أي واقع اجتماعي في كل زمان ومكان، مغمضة عينيها عن التجربة الإنسانية في تفردها ونوعيتها، ويفوتها أن العلاقات الإنسانية متميزة عن علاقات الأشياء من حيث أن الإنسان كائن فاعلية".
لقد قسم الماركسيون المعرفة إلى قسمين أو مرحلتين :
المعرفة الحسية ، وهي التي تتعلق بجزئيات الأشياء وظواهرها، والمعرفة العقلانية التي تدرك كليات الأشياء وجواهرها، حيث "تنعكس ظواهر العالم الموضوعي في عقل الإنسان عبر حواسه الخمس، فتتكون المعرفة الحسية في البداية ثم تحث لها قفزة إلى المعرفة العقلانية" على حد تعبير ماوتسي تونغ في كتابه أربع مقالات فلسفية.هذه القفزة من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلانية، لم يعط الماركسيون توضيحاً لها كيف تمت، ولا كيف حصل هذا الانتقال من حالة إلى حالة بل كيف جرى ذلك التحول؟ مما لا شك فيه أن هذا يشكل ثغره بينه في الفكر الماركسي، مرده إلى كونهم افتقدوا حلقة هامة من حلقات العملية العقلية وهي العنصر الرابع، أي المعلومات السابقة، حيث يقوم الدماغ بإجراء المقارنة بينها وبين معطيات الحس فيصهرها في حكم واحد.وهكذا فليس ثمة معرفة حسية ومعرفة عقلية، بل هناك أحكام على وقائع يصدرها الدماغ استناداً إلى معطيات الحس ومعلوماته السابقة عن الواقع.
طرق الفكر
أ ـ الاستقراء
الطريقة العلمية ـ الطريقة العقلية ـ علم النفس
علم الاجتماع ـ يقين الاستقراء ـ طريقة القرآن
مقدمة
غاية المؤلف دوماً تمهيد الفكرة للأذهان حتى تستوعبها، وتعي مغازيها وتجعل منها منطقاً موازياً ومتعامداً مع كل فكرةٍ مثمرةٍ. وهذا ما هدف إليه الأستاذ " محمد أبو حمدان " في كتابه.فقد ترجم أفكاره ( الإنسان ) بلغة هذا العصر ومعطياته الثقافية والفلسفية والعلمية. ناقلاً الفكر الديني ، من كونه مسلمات مصدق بصحتها سلفاً، إلى تواجده في ثقافة القرن العشرين، ليصبح إحدى الثقافات الفاعلة في تطوير المفهوم الإنساني، بل الثقافة الأولى التي شعت وسمت على يده لتأخذ مركز الصدارة في ثقافة هذا العصر، مرتقية بالفكر الفلسفي لتشرق شمسه مجدداً، وتنير سائر المفاهيم والأيدلوجيات بنور المعتقد الالهي عن طريق العقل، ومعطياته الفكرية التي تتلاءم مع كل عصر، ومع كل مجتمع.فالإنسان لم يعد بعقله ابن العصور الأولى. بل أصبح مع الأستاذ " محمد أبو حمدان " ابن هذا العصر، بكل ما في هذا العصر من مفاهيم فلسفية.فهذه الأبحاث هي الدين بلغة العصر، وهي فكر العصر بلغة الدين إذ الدين والفكر توأمان، فحيث لا فكر لا يوجد دين. وحيث لا دين، ليست ثمة أفكار تعاش، والدين هو تعبير الصحيح عن وعي الإنسان لخالقه ولذاته وللآخرين.هو رسالة الدائمة العطاء، الدائمة التطور، الدائمة الشعاع، هو محك الإنسانية، والربط الأسمى للعلاقات البشرية.
طرق الفكر
حاول المفكرون منذ القدم وضع مناهج للفكر يسير عليها لكي يضمن الإنسان سلامة التفكير والبعد عن الخطأ، ويضع عقله في الإطار الأسلم لتولد المعرفة.ويلزم الباحث نفسه بسلوكه للوصول إلى الحقيقة التي ينشد، محترساً من الوقوع في الخطأ في حل المشاكل النظرية والعلمية، وبالتالي متجنباً الفشل في التنبؤ بالنتائج المستقبلية لحلوله العقلية، طمعاً في قيام نظام يوحد بين تناقضات الأفكار التي تنشئها عقول الناس.وهذه المناهج هي بمثابة قواعد معيارية وضعها العقل لنفسه، واتخذ منها وسيلة تضمن صحة أحكامه على الوجود.أو أقل هي طرق عبدها لتسهل سيرة عبر نشاطاته المتعددة في بحثه عن الحقيقة.وبحثنا هذا منصب على دراسة هذه المناهج أو الطرق الفكرية ليكون لدى الباحث، في أي نوع من أنواع المعرفة الإنسانية، المنهج الأسلم للنحو منحي الصواب.
لقد قسم الفلاسفة المعرفة إلى قسمين:
1 ـ المعرفة المباشرة أو الحدس.
2 ـ المعرفة غير المباشرة أو الاستدلال.
وقسموا الحدس إلى:
1 ـ حدس حسي.
2 ـ حدس عقلي.
فالحدس الحسي:
هو المعرفة المباشرة بالكيفيات الحسية، أو المعطيات الحس مثل: اللون: أحمر أو أصفر …… والطعم: حامض أو حلو …. والملمس: ناعم أو خشن…..
والحدس العقلي:
هو ما يدركه العقل إدراكاً مباشراً دون حاجة إلى أية واسطة أو تعليل.مثل إدراك أن الكل أكبر من الجزء، أو إدراك أن النقيضين لا يجتمعان، أو إدراك أن الكل معلول علة.أما الاستدلال أو المعرفة المقالية، أي التي تحتاج إلى عبارات أو مقال تتدرج به من مقدمات إلى نتائج، فهو يعتمد في مقدماته على الحدس بشقيه، الحسي والعقلي.إذ الحدس هو المعرفة الأولى للإنسان والاستدلال هو المعرفة اللاحقة والمستندة إلى الأولى.وقسم الفلاسفة الاستدلال إلى استنباطي أو صوري واستقرائي أو مادي.فالاستنباط أو ما اصطلح على تسميته بالمنطق الصوري هو مرحلة لاحقة للاستدلال الاستقرائي.فالاستقراء يبدأ من الجزئي ليتدرج إلى الكلي.بينما يأخذ الاستنباط الحقيقة الكلية ليستنتج منها الحقائق الجزئية. فالحقيقة الكلية التي هي أساس الاستنباط إنما تأتي بطريق الاستقراء وتلزم عنه.لذلك كانت المعرفة الحدسية أو التلقائية هي الأساس في منطلق الفكر الإنساني، ثم تلاها الاستقراء مستنداً إلى الحدس في اعتماد قضاياه الأولية، مبتدئاً من الجزئي المدرك إدراكاً مباشراً، منتقلاً انتقالاً منطقياً تجريبياً بالاستقراء للوصول إلى العام أو القانون.ومن هذا العام يخلص الاستنباط إلى نتائج جزئية أو وقائع فردية ينطبق عليها القانون الناتج عن الاستقراء.
والآن لنعط مثالاً توضيحياً لذلك.
الاستقراء :
الحديد والنحاس والألمنيوم وغيرها تتمدد بالحرارة.والحديد والنحاس والألمنيوم معادن.إذن كل المعادن تتمدد بالحرارة.
الاستنباط :
كل المعادن تتمدد بالحرارة.والحديد معدن.إذن الحديد يتمدد بالحرارة.
موقفنا من هذه الطرق :
لنضع هذه الطرق على محك العقل لنتبين سلامتها ومدى إمكان اتخاذها مناهج لعقولنا نستخدمها في تجنب الخطأ وانتهاج الصواب.
1 ـ الحدس:
نبدأ أولاً بالحدس. ما مدى صحة اعتمادنا إياه كمعرفة مباشرة أولية مسلم بها نبني عليها باقي المعارف الاستدلالية؟
لا بد من التمييز أولاً بين الحدس الحسي والحدس العقلي.
فالحدس الحسي: هو أول مراحل المعرفة. لأنه يصل قوانا العارفة بعالم الواقع ليقوم الدماغ يربطها في معلوماتنا السابقة عن هذا الواقع، ويصدر الحكم العقلي فيها. إذ العملية العقلية وفق ما نرى، مؤلفه من.
عناصر أربعة:
أولها الواقع.
وثانيهما الإحساس بالواقع.
وثالثهما المعلومات المختزنة في ذاكرتنا عنه.
ورابعها الدماغ الذي يربط ما أوصله الحس إليه عن هذا الواقع بمعلوماته السابقة عنه.
فعندما نضع يدنا في ماء بارد نحس ببرودته. وهذا الإحساس مشترك بين جميع الناس.وهو أول مراتب المعرفة، وبدونه لا تكون معرفة قط. كما بينا في البحث السابق.
( الفلاسفة والفكر الإسلامي )
أما الحدس العقلي:
فموقفنا فيه يختلف، إذ ليس هنالك معرفة عقلية تصدر عن العقل صدوراً مباشراً كما يصدر الانطباع الحسي عن الحدس.بل لا بد من القيام بالعملية بكامل عناصرها للحصول على إدراك عقلي.سواء أكان إدراكاً مباشراً أم غير مباشر. فهو يحتاج إلى مقدمات وبراهين يستند إليها في فهم الواقع. إذاً لا بد لهذا الواقع أن يكون محسوساً أولاً لكي يكون بالتالي مدركاً.ولا بد من معلومات يربطها الدماغ بالواقع لتتم عملية الإدراك.إذاً فالحدس العقلي لم يصدر من العقل صدوراً خالياً من الحس والتجربة.إذ ليس في العقل أفكار تنبع منه أو تصدر عنه صدوراً مجرداً، وإنما يجردها العقل من الوقائع المحسوسة.والفارق بين الحدس العقلي أو الإدراك المباشر والإدراك غير المباشر، هو فارق في درجة الوضوح لا فارق في النوع.إن إدراكنا لكون المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين ليس إدراكاً عقلياً مجرداً عن الحس والتجربة. بل لا بد لكي يتسنى لنا إدراك ذلك أن نتمثل في ذهننا للنقطتين والمستقيم الواصل بينهما تمثلاً حسياً تجريبياً.ومن هنا يحدث الإدراك الفوري أو ما نسميه الحدس.وإن إدراكنا أن الخشب يطفو على وجه الماء مستمد من تجارب ومشاهدات حسية. وإدراكنا الآن الكل أكبر من الجزء هو عملية استحضار ذهني لأي كائن وتصور جزء منه ومقارنته مع الكل في عملية تجريدية مستمد من مشاهدات سابقة لكائنات موجودة وجوداً واقعياً في عالم المحسوسات.
إذن فالحدس العقلي ليس هو سوى عملية عقلية بسيطة لم تحتج لأن تستند إلى أفكار أخرى لتوضيحها. وهو ليس ضرورة من ضرورات العقل، تشع منه كما يشع النور من الشمعة.لذلك لا يقتضي التسليم بصحته تسليماً مطلقاً بحيث لا يكون هنالك مجال للشك به، ويؤخذ على أنه مسلمة من مسلمات الفكر يركن إليها في البراهين الفكرية الأخرى.إذ لا بد من امتحانه على محك الواقع للتأكد من سلامة انطباقه عليه.
الحدس النفسي: وهو الإدراك المباشر لحالاتنا النفسية وهو يقابل الحدس الحسي. فهذا يدرك عالم الموجودات الخارجي بواسطة الحواس.وذاك يدرك عالم النفس أو الأحاسيس الباطنة، بواسطة المشاعر الداخلية.وهذا الحدس له في العملية العقلية قوة الحدس الحسي، لكن فقط بالنسبة لمعرفة مشاعرنا الباطنية.
الحدس الصوفي: نستبعد من دراستنا للحدوس هذا الحدس، الذي يقول أصحابه بأنه يجعلنا وجهاً لوجه أمام الحقائق المطلقة.لأن ذلك ليس في متناول العقل البشري. ولا يقع ضمن طاقاته وطرقه التي يهمنا معرفتها. بل يقع في نطاق ما ورائي لا يعني المعرفة الإنسانية شيئاً.
الحدس الإلهامي: أو التكهني ـ كما يراه أساطين الفلسفة ـ هو ذاك الحدس الذي يعطي الإنسان إمكانية التنبؤ بمعرفة ما قيل قيام الدليل العقلي أو التجريبي عليها.وهو نوع من الإلهام يتأتى للعقل البشري في الاكتشافات والاختراعات على شكل فروض تثبت التجربة فيما بعد صحتها.أو يتأتى بصورة تشخيص لمرض من الأمراض لدى الأطباء، أو توقع حدث سياسي لدى رجال السياسة.
نحن لا نؤمن بمثل هذا الحدس أو الإلهام، إذ لا إلهام في دنيا الفكر وعالم الوقائع، لأن الاعتراف بالإلهام هو تسليم ضمن بوجود قوة خارقة أعطت العقل أو ألهمته هذا النوع من المعرفة.لذلك فإن الاعتراف بالإلهام هو جهل بطبيعة العملية العقلية البشرية، وعدم الوقوف وقوفاً بيناً على حقيقتها، وهو تجاوز لقدرات العقل وإعطائه بعداً ما ورائياً بعدها يكون عن واقع.
فالكشف العلمي لا يأتي فجأة ـ وكأنه الوحي ـ يهبط على أدمغة العلماء، إنما يأتي نتيجة كد الذهن وإجراء التجارب العديدة وبذل الأيام الطوال في التفكير والمقارنة والتوقع والربط.وهذه كلها طاقات للعقل البشري يستخدمها جاهداً للوصول إلى مكتشفاته.وعندما يقول العالم " أنا وجدتها " على حد تعبير ارخميدس عندما اكتشف قانون الكثافة النوعية وهو يستحم.أو كما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية عند رؤية تفاحة تسقط من شجرتها، كما يدعون.وليس كما يرى فرويد بأن الكشف العلمي هو وليد اللاشعور، حيث تنبع الأفكار العلمية من نفس المصدر الذي تنبع منه الأحلام والحدوس اللاشعورية، ويحرم العقل الواعي من هذه الصفة الهامة في دنيا المعرفة.
فالعبقرية العلمية إذن " هي صبر طويل " كما يقول بيفون Buffon البيلوجي الفرنسي.وقد أثبت نيوتن إنه توصل إلى اكتشافه بالتفكير الطويل المستديم. وليس ثمة حدس إلهامي يهبط على العقل من غير حيز هذا العقل (1).
ننتقل الآن إلى الاستدلال أو المعرفة غير المباشرة.
2 ـ الاستدلال:
لقد قسم الفلاسفة الاستدلال إلى:
أ ـ استقرائي أو مادي.
ب ـ استنباطي أو قياسي.
أ ـ الاستقراء:
الاستقراء تعريفاً :
هو الطريقة الفكرية التي تنتهج للانتقال من الجزيئات المعروفة إلى نتيجة عامة تشمل تلك الجزيئات كما تشمل غيرها مما لم يعرف بعد.أو هو كل استدلال تأتي النتيجة فيه أكبر من المقدمات.وهو يسير من الخاص إلى العام. ويقوم على الانتقال من الواقعة الفردية المحدودة إلى القانون العام الكلي، معتمداً في نهجه على المشاهدة والتصنيف ثم الافتراض أو محاولة التفسير، ثم الاختبار للحصول على النتيجة الفكرية.والنتيجة فيه أكبر من مقدماتها.
نقسم الاستقراء إلى طريقتين:
1 ـ الطريقة العقلية، وهي ما تعتمد الملاحظة والاستنتاج طريقاً للفكر.
2 ـ الطريقة العملية، وهي لا تكتفي بالملاحظة وحدها، إنما تعتمد بالإضافة إلى الملاحظة، التجربة للوصول إلى النتائج الفكرية.سنبحث الآن الشق الثاني من الاستقراء، أي الطريقة العملية المسيطرة على فكر هذا العصر لنعود إلى بحث الطريقة العقلية فيما بعد.
الطريقة العملية:
مما لا شك فيه أن الطريقة العملية هي طابع هذا العصر المميز.إذ وصل الإنسان إلى درجة من التطور أزاحت عن فكره الكثير من الأوهام التي مرت بها البشرية عبر تاريخها مثل:أن السهم يقتل بقوة ألمانا كما عند القبائل البدائية التي تؤمن بأسباب خارقة للعادة منبثة في كل الكائنات. كما تحرر الإنسان من تلك الأفكار الميتافيزيقية التي عرفها عصر الفلسفة اليونانية والتي قالت بوجود قوى خفية في الأشياء، أطلق عليها أرسطو اسم الصور الجوهرية أو الماهيات. كالإحراق في النار والاسكار في الخمر، وأصبح إنسان هذا العصر يبحث عن علاقات ثابتة بين الأشياء تسمى القوانين العلمية، يدفعه إلى ذلك رغبته في معرفة الطبيعة واكتشاف قوانينها الثابتة للسيطرة عليها وتسخيرها في دنيا المخترعات.إذن فحاجة الإنسان هي الدافع الأول لما يسمى بالروح العلمي، فحاجة الكلدانيين للتنبؤ دفعتهم إلى معرفة علم الفلك. وحاجة المصريين القدماء إلى المساحة لمسح أراضيهم بعد الفيضان أنشأت لديهم الهندسة.وتوق الإنسان المستمر للسيطرة على الزمان والمكان دفعته لاختراع السيارة والطائرة وبالتالي الصاروخ.كذلك حاجته للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالحه أدت به لاختراع هذه الآلات العاملة في شتى أنواع الصناعة والزراعة.قبل أن نقوم بأية عملية تقيم لهذه الطريقة الفكرية سنقوم بعرض توضيحي لأهم مميزاتها.
فالطريقة العلمية تنتهج الخطوات التالية:
1 ـ الملاحظة.
2 ـ الفرض.
3 ـ الاختبار.
4 ـ الاستنتاج.
(1) الملاحظة :
الملاحظة أو مشاهدة الوقائع تقوم على الإحساس أو الحدس الحسي، الذي هو الأساس في كل معرفة تجريبية.والحواس هنا في المجال العلمي لم تبق في المراحل الطبيعية بل أصبح لها امتداد صناعي. فالعين أصبحت ترى عالم الكواكب بواسطة التلسكوب أكبر آلاف المرات، وترى عالم الكائنات الصغرى التي يستحيل عليها رؤيتها لولا الميكروسكوب التي تبالغ في تكبيرها لتصبح في متناول رؤية العين.كما أننا بواسطة الغلفانومتر والمغناتومتر يمكن أن نحس تيارات كهربائية ومغناطيسية ضعيفة جداً لا ندركها بالحس المجرد.كذلك فإن الآلات الفوتوغرافية السريعة يمكنها أن تصور المتعاقبة ثم تعيد عرضها مبطأة، بحيث يمكن العين المجردة من رؤيتها، كتصوير سير قذيفة، أو انطلاق صاروخ.كما يمكنها أن تصور الصور البطيئة جداً كمراحل تطور الجنين أو نمو نبتة.واستطاع الأطباء رؤية جوف المريض بواسطة الأشعة، كما تمكنوا من تسجيل حركات الزلازال والموجات الصوتية الضعيفة جداً التي يستحيل على الأذن سماعها.نخلص مما تقدم إلى أن ملاحظات الإنسان العالم أصبحت تمتد إلى أكثر من متناول حواسنا لتنفذ إلى دقائق المادة وعوالمها الرحبة.وهنا لا بد من التمييز بين نوعين من الملاحظات: الملاحظة العادية والملاحظة العلمية. فالملاحظ العادية هي ما يشاهده الإنسان العادي من ظواهر الطبيعة بشكل عفوي ودونما استثارة، وهذه مرحلة بدائية في دنيا المعرفة العلمية.أما الملاحظة العملية فهي التي يتعمدها العالم مستثيراً الطبيعة مراقباً استجاباتها، كأن ينوع مشاهداته بخلق ظروف أخرى لظاهرة ما كي يترصد كافة تغيراتها.
هنا قد يسأل سائل :
ما دمتم من دعاة اعتبار أن العقل يعتمد أن العقل يعتمد في أحكامه الواقع كأساس لصحة الأفكار، إذن فالقضية هنا وجهاً لوجه مع واقع محسوس مجسد لا لبس فيه، فلا بد وأن تكون الأفكار الناتجة عنه حقائق قطعية.وجوابنا هو أن الملاحظة بمفردها لا تؤدي إلى معرفة مباشرة أو إدراك عقلي، بل لا بد من تدخل الدماغ ليربط بين ما ينطبع في الحس وبين ما لديه من معلومات أو أفكار سابقة عن الواقع المحسوس.فالعقل لا يمكن أن يقف موقفاً سلبياً قط عند المشاهدة، بل يقوم بعملية تأليف وتركيب لكل ما تقع عليه الحواس، ويضيف إليه صوراً يجردها من المخيلة مقارناً إياها بصور وأفكار مختزنة في ذاكرته، حيث لا يوجد واقعة يعيها العقل منفصلة عن أفكارنا.فنحن لا يعينا الوجود في ذاته بقدر ما يعنينا الوجود من حيث هو وجود في فكرنا، ولا سبيل أخرى لدينا لإدراك الوجود إلا ما تمثل منه حيز مدركاتنا عن طريق الحواس ، وإلا نكون قد وقعنا في مطبات الميتافيزيقا التي ننكرها كمعرفة .
فالأفكار
هي نشاط إيجابي يكيف الوقائع الخارجية تكييفاً ذهنياً بناء للتصورات والمفاهيم المختزنة التي كونها العقل من تجاربه ومعلوماته السابقة.لذلك فنحن ننكر على العلماء الذين اشترطوا على الملاحظ، كأمثال كلود برنار، أن يكون كالآلة الفوتوغرافية يلتقط دون أدنى تدخل منه، أي أن يستمع إلى الطبيعة ويسجل كلامها بدقة مجرداً نفسه من أية فكرة مسبقة حتى تكون مشاهداته موضوعية لا تحيز فيها. إذ في رأينا أن أي إنسان لا يستطيع مشاهدة أبسط الوقائع إذا لم يكن لديه فكرة سابقة عنها.
يقول داروين أنه عندما ذهب إلى بلاد الغال برحلة استكشافية " فقد ظللنا ساعات طويلة نمتحن الصخور بدقة فائقة بحثاً وراء حفريات متحجرة، ولكن لم يفطن أحدها إلى الظواهر الجليدية التي تحيط بنا في كل مكان، ومع ذلك فقد كانت تلك الظواهر شديدة الوضوح إلى حد أن بيتاً محروقاً لا يميط اللثام عن قصته أكثر مما أماط ذلك الوادي الجليدي الذي كنا ننقب فيه".هذا مثال بين لما لا يستطيع الإنسان مشاهدته رغم قوة وضوحه وذلك لعدم وجود فكرة مسبقة عنه.كما أنه ليس كل أفكارنا تأتي من الخارج، فبعضها يأتي من ميولنا وحاجاتنا كدوافع لإثارة فكرة.لذلك فالفكر عملية اختبار، أي أن العقل لا يهتم بكل ما تقع الحواس ليصدر أحكاماً عليه ويفهمه فهماً متساوياً، بل ينتقي من الوجود ما يفهمه وما له مفهوم مسبق لديه.نخلص مما تقدم إلى أنه في الملاحظة لا يمكن رؤية ما هو واقع إلا إذا سبقت إلى الذهن فكرة عما يجب أن يلاحظ، فتكون الفكرة السابقة هي المنظار الذي يرى العالم من خلاله الوقائع ويكون المعرفة.إذن فالملاحظة الحسية ليست مجرد قبول سلبي لما ينطبع في الحواس من احساسات مصدرها الخارج، وإنما هي نشاط إيجابي يكيف الوقائع الخارجية بناء لأفكار الملاحظة السابقة ومعلوماته المختزنة التي كونها الذهن خلال تجاربه ونشاطاته، وهي الطريقة المؤدية إلى الحكم العقلي المباشر الذي هو أول مراحل الفكر.
(2) الفرض
لنأخذ الآن المرحلة الثانية من الطريقة العلمية ( الاستقراء ) وهي الفرض.بعد الملاحظة العلمية للوقائع يقوم الدماغ بعملية الربط والمقارنة بينها وبين ما لديه من معلومات سابقة، فيصدر حكماً عقلياً ناقصاً، أو مشكوكاً بصحته، ينقصه أحد عناصر العملية العقلية وهو الواقع، فيستخدم العقل عوضاً عن الواقع ـ الذي هو معيار الحقيقة ـ واقعاً تخيلياً استمده من المخيلة ليفسر الوقائع المراد كشفها لكن العقل لم يركن إلى صحة هذا الواقع التخيل. من هنا يبقى حكمه مجرد فرض حتى يحك على محك الواقع الحقيقي، أي تثبت التجربة صحته، فيغدو حقيقة علمية مسلماً بصحتها، ويغدو عندها الحكم العقلي صحيحاً لأنه استند إلى واقع.
فالفرض إذاً يأتي من مشاهدة الظواهر، ثم يقفز العقل " قفزة في المجهول " على حد تعبير غوبلو لتفسير هذه الظواهر والوقوف على حقائقها التي لم تكن المشاهدة وحدها كافية لتفسيرها، أي هو توقع محتمل للوقائع قبل أن تثبت التجربة صحتها.والفرض هو نتيجة ملاحظات وكد فكري، واصدار أحكام احتمالية على واقع ما. والكشف العلمي إنما هو كشف الفرض بالذات، أو هو الفرض تحقق بالتجربة. إذ الفرض هو التفسير المؤقت للعلاقات الثابتة بين الظواهر التي لم يثبت الاختبار وجودها بعد.لكن العقل قد يحتاج إلى فروض شتى قبل أن يصل إلى الفرض الذي ثبت التجربة صحته. فكبلر لم يصل إلى اكتشافه عن مسار الكواكب البيضاوي إلا بعد إجراء تجاربه على تسعة عشر فرضاً. كما لا بد من التنويه عملية تعسفية يقوم بها العالم وفق هواه أو بكشف مفاجئ يهبط عليه من اللاشعور، بل هو " عملية اختبار ذهني تسبق الاختبار المعملي " على حد قول ارنست ماخ.
(3) التجربة
التجربة هي عملية التأكد بواسطة الاختبار من صحة المشاهدة والفرض بإيجاد العلاقات الثابتة بين الظواهر، أو هي عملية برهنة القوانين بالأرقام والانتقال من الواقعة الجزئية إلى القانون الكلي الشامل، وهي عودة من المجهول الذي هو الفرض إلى الواقع المتمثل بالاختبار.فالعام بعد أن يشاهد الظاهرة يحاول فهمها عن طريق الفرض أو الحكم الظني، ثم يعمد إلى التجربة مهيئاً الظروف الممكنة للظاهرة كي يجري عليها اختباره، ويثبت من صحة فرضه. فغالبية لاحظ مصباحاً معلقاً في سقف كنيسة يتحرك بسرعة ضمن قوس محدود، كما الحال في رقاص ساعة الحائط، هذه الحركة المنتظمة السرعة دفعته ليتساءل:هل أن جميع الأجسام ذات الأوزان المختلفة المعلقة في نفس الحال، ذات سرعة واحدة؟ أم أن لكل منها سرعته المتناسبة مع وزنه؟لكن تبين له بعد إمعان النظر الاختبار أن سرعتها جميعاً واحدة، مما دعاه للتساؤل التالي: هل أن رأي أرسطو في الطبيعيات القائل بأن سرعة سقوط الأجسام تزداد بنسبة ثقلها هو صحيح أم خاطئ؟ فنتج لديه الفرض الذي يخطئ نظرية أرسطو حيث افترض أن جميع الأجسام ذات الأثقال المختلفة تسقط بنفس السرعة.عندها ذهب إلى برج بيزا المائل وأسقط من فوقه أجسامنا مختلفة الثقل، فوجد بالتجربة أنها كلها وصلت إلى سطح الأرض في نفس اللحظة، فخلص إلى النتيجة التالية:وهي أن سرعة سقوط الأجسام منفصلة عن أوزانها، وهي متساوية في نفس الظروف ( وهذا، طبعاً، بعد حذف مقاومة الهواء لها ).
وباختبار آخر جراه بدحرجة كرة على سطح مائل وصل إلى القانون التالي :
إن سرعة الأجسام تتزايد بمعدل مربع زمن الحركة، وهكذا انتقل من الملاحظة إلى الفرض ثم إلى القانون الذي أثبته التجربة. وهذا القانون ليس مجرد وصف، بل هو قانون علمي يعبر عن علاقته ثابتة بين ظاهرتين تتغير كل منهما للثانية ( السرعة والزمن ) ويعبر عنهما بلغة الرياضيات.
وباستيرلاحظ التعفن الذي يصيب الأنبذة والأطعمة المعرضة للهواء، فافترض وجود بكتيريا في الهواء تكون هي المسببة لهذا التعفن، فعمد إلى إجراء تجريبية للتحقق من هذا الفرض، فقام بتعقيم عدد من الأواني المملوءة بالمواد قابلة التعفن بأن غلاها على النار فترة من الزمن ثم أقفل على بعضها إقفالاً محكماً بحيث لا يتسرب إليه شيء من الهواء، وأبقى البعض الآخر معرضاً للهواء الذي أفترض فيه وجود البكتيريا، فتبين له بعد فترة من الزمن صحة فرضه بأن فسدت الأطعمة الملامسة للهواء بينما سلمت الأطعمة المحفوظة في الآنية المقفلة.
من أين يستمد الاستقراء يقينه؟
العقليون، وعلى رأسهم أرسطو، استمدوا يقين الاستقراء من قضايا عقلية قبلية في الذهن مثل: مبدأ السببية ومبدأ أن الإنفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً، أي أن الصدفة لا يصدق أن تأتي في أكثر الأحيان.ففي المبدأ الأول تسليم بأن الطبيعة محكومية بعلية لا تحيد عنها، وأنه لا بد لكل سبب من مسبب، فإذا كانت الحرارة هي سبب تمدد قطعة من الحديد، في تجربة ما أو في تجالاب عدة، فلا بد وأن هذا السبب سيتكرر في جميع التجارب الأخرى، مهما تكررت.من هنا فقد أعطي الاستقراء صفة الكلية والضرورية، حيث استبطن قياساً منطقياً، أي غدا دليلاً قياسياً له صفة العموم التي تنطبق على الجزئيات ولم يبق مجرد دليل استقرائي يطبق الحادثة الجزيئية المعروفة على عموم الحالات الأخرى التي لم تعرف.أما المبدأ الثاني، فقد أعطى للتجارب الناتجة عن الاستقراء صفة الديمومة بإنكاره لديمومة الصدفة، فإذا ما تكررت صحة التجربة وصحة النتائج فمعنى هذا نفي للصدفة التي ليس لها في مفهوم العقل صفة الديمومة ولا أكثرية التكرار. فكلما ألقينا جسماً في الهواء يسقط بفعل الجاذبية إلى الأرض، فلا نستطيع وفق رأيهم، رد ذلك إلى الصدفة، لأن المبدأ العقلي المذمور لا يسلم بديمومة الصدفة ولا بأكثرية حدوثها.
كما قالوا بمسلمة أخرى وهي أن في الطبيعة اضطراداً، بحيث لا بد وأن تؤدي الحالات المتماثلة إلى نتائج متماثلة، هذه المسلمة هي قبلية في العقل يخلعها على الحالات التي تمت تجربة بعضها ولا تشملها التجربة جميعاً، فيعطيها يقينها العقلي، بحيث نتوقع نتائجه مماثلة لما أنتجه التجربة في الحالات الأخرى التي لم تجر التجربة عليها.وهكذا نجد أن الاستقراء الأرسطي استند إلى قياس منطقي صغرى مقدماته مأخوذة من التجربة أو الملاحظة وكبراها مأخوذة من مبدأ عقلي قبلي يؤمن بالسببية وعدم تكرار الصدفة فيتكون من هاتين القضيتين نتيجة صحيحة وقياس متكامل. فاحترق الخشب قد وافقه وجود الحرارة في النار. لكن وفق مبدأي السببية والاضطراد في الطبيعة، أنه كلما حدثت ظاهرة في ظروف معينة فلا بد وأن تحدث في ظروف مماثلة.
لذلك فإن الخشب يحترق دائماً بتأثير الحرارة.والتجريبيون، كجون، ستيورات مل، أعطوا الاستقراء يقينه أيضاً من مبدأ السببية وقضية الاضطراد ( مع الفارق بدرجة اليقين بين المذهبين )، وأن كانوا قد نفوا عن هذه القضايا صفتها العقلية القبلية، وأرجعوها إلى الحس الذي هو الأساس الوحيد للمعرفة البشرية كلها. فهو يرى أن السببية هي وليدة استقراءات أشمل في العالم الطبيعة. بينما رد ديفد هيوم السببية إلى مجرد عادة ذهنية تكونت لدى الإنسان من مجرد رؤية سابق ولاحق يتعاقبان في التجربة الحسية المتكررة في الطبيعة.لكن العقليين يرون في السببية علاقة وجوب تأثير وضرورة بين ظاهرتين تؤثر إحداهما بالأخرى، فالظاهرة المؤثرة هي السبب والطاهرة الموجودة نتيجة التأثر هي المسبب.بينما يرى التجريبيون في السببية مجرد تتابع زمني مضطرد بين ظاهرتين لا تأثير لأحدهما في الأخرى تأثيراً فاعلاً، فيه شيء من الضرورة.نحن نرفض ما قال به العقليون من وجود مبادئ وقضايا عقلية قبلية في الذهن، ولد الإنسان مزوداً بها كعلاقة صانع بصنعه.إذ لا شيء في العقل قبلي أو فطري خارج عن سنة التعلم والتجربة المستمد من دنيا الواقع.
ورغم أننا نلتقي مع مل بأن السببية والاضطراد هما وليدا استقراءات أشمل في الطبيعة، فنحن نرفض كونها مجرد عادات ذهنية تكونتلدى الإنسان من رؤية سابق ولا حق يتعاقبان في التجربة، كما يرى هيوم.لكن علماء العصر الذين يعتمدون طريقة الاستقراء لاكتشاف القوانين العلمية، إنما يفتشون عن علاقة ثابتة بين ظاهرتين، ولم يعد يعنيهم مبدأ العلية أو السببية شيئاً، ولم يعد للعلية مفهومها القديم عند المتافيزيقيين بكونها سبب فاعل لوجود المعلول، إذ في ذلك كان إقرارهم ضمناً أن العلة تملك قوة إنتاج المعلول، أو ما يسمونه بالفاعلية، كما في تسميتهم لها بالعلة الفاعلة، بل أصبحت مجرد علاقة ثابتة بين ظاهرتين وجردت من مفهوم الأثر الخارج من العلة إلى المعلول، وأصبح هناك مصاحبة بين شيئين، فمجرد وجود أحدهما يعني وجود الآخر واختفاؤه اختفاء له. فزيادة الضغط على الغاز يصغر حجمه، ونقصه يكبر هذا الحجم، وارتفاع الحرارة هو علة صعود الزئبق في أنبوب الترمومتر، وانخفاضها يصاحب بانخفاضه في الأنبوب.لذلك فإن ما يهم العلماء اليوم هو اكتشاف العلاقات الثابتة بين الظواهر ليس اكتشافاً كيفياً وحسب وإنما ترجمة ذلك إلى علاقات كمية تحدد بالأرقام والمقادير، ويصبح القانون العلمي مجرد دالة Fonction بين متغيرين.
فقانون ماريوت يحدد علاقة ثابتة بين متغيرين: أحدهما حجم الغاز وثانيهما الضغط الواقع عليه. يحدد الضغط بالنسب والأرقام ويحدد الحجم كذلك، فارتفاع الرقم في الأول يصاحبه انخفاض في الثاني والعكس بالعكس، بحيث يمكن رسم دالة حسابية تبين بالأرقام العلاقة القائمة بين الحجم والضغط بحيث تصل في دقتها إلى أعشار الأعداد.أما القول بوجود الاضطراد في الطبيعة وإنكار الأخذ بالصدفة في قوانين العلم، فهذا ليس مبدأ قبلياً ولا مجرد عادة تكونت في الذهن وإنما هو ما اكتسبه العقل البشري من تجاربه على الوقائع، وغدا لديه حقائق مسلماً بصحتها لقيام البرهان التجريبي المستمد من عالم الواقع عليها. وهي ما نسميه بالخبرات البشرية التي تشكل المخزون العقلي اللازم لكل العمليات اللاحقة، سواء منها ما تعلق بالحدوس أو المعارف المباشرة، أو ما تعلق بالاستدلال.
والآن، ما قيمة هذه الطريقة العلمية؟
وما هي مدى صحة هذا الاستقراء؟
وما مدى اليقين به؟
وهل يمكن اعتماده طريقة مثلى للفكر الإنساني؟
نحن كدعاة اعتماد الواقع أساساً للفكر نرانا في هذه الطريقة الاستقرائية في صميم ما ندعو إليه، فها هو الواقع متمثلاً بالتجربة المخبرية يبرهن قوانينه بشكل بين. فأين هو وجه الحقيقة إذن؟في هذا الاستقراء هناك مسلمة ميتافيزيقية يتخذها العلماء أساساً لأبحاثهم العلمية، وهي أن الطبيعة محكومة بحتمية تخضع لها جميع الظواهر وتنظيمها في علاقات ثابتة ومضطردة، ومهمة العالم أن يكتشف هذه العلاقات عن طريق الملاحظة والاختبار.والعلم لا يعترف للمادة بأية حرية أو اختيار كما أنه لا يهتم بالصدفة، بل يعتمد أساساً لأبحاثه أن الطبيعة خاضعة لهذه الحتمية لا تحيد عنها أبداً.وبدون هذا الاعتقاد لا يقوم علم تجريبي قط.لكن هذه العلاقات شائكة ومتعددة تعدداً يتجاوز قدرات الإنسان لحصرها واختبارها.من هنا القوانين هي عملية اختصار لعلاقات كثيرة في مبدأ واحد شامل.
هناك نوعان من الاستقراء:
أولهما :
وهو ما يسمى بالاستقراء التام أو الكامل أي الذي لا يشمل في النتيجة شيئاً لم يجر الاختبار المسبق عليه، نعني أن يكون عدد الوقائع محدوداً ومحصوراً بحيث ينظمها الاستقراء جميعاً، مثل: الأرض والمريخ وزحل والمشتري وعطارد والزهرة ونبتون واورانس وبلوتون تدور في أفلاك بيضاوية.والأرض والمريخ وزحل…. الخ كواكب في المجموعة الشمسية.إذن فكواكب المجموعة الشمسية تدور في أفلاك بيضاوية. فالنتيجة ليست أعم من المقدمة، أي من الوقائع المستقرأة.وهذا الاستقراء يلزمه مشاهدة كل كوكب على حدة، وملاحظة حركته والتأكد من أنها بيضاوية.فالنتيجة هنا لا بد وأن تكون لازمة لزوماً ليس فقط منطقياً وإنما حقيقي أيضاً، إذ التجربة قد انتظمت كلا من هذه الكواكب، وأثبت صحة المقدمات، وهذا الاستقراء لا يثير أية مشكلة.
ثانيهما :
لكن الصعوبات تبدأ عندما تكون النتيجة أعم من المقدمات أو الوقائع أي عندما نلزم وقائع لم تجر عليها بقانون جرى التوصل إليه عن طريق تجربة عدد قليل من الوقائع الأخرى، وهذا ما يسمى باستقراء المكبر أو الناقص.فالقول بأن سرعة الأجسام تتضاعف بمعدل مربعات الزمن ـ كما في قانون غاليليه ـ لا يجعل العقل يسلم بانطباق ذلك على جميع الأجسام والحجوم والأزمنة والمكنة في كوكبنا أو أي كوكب آخر، أي لا نستطيع أن نعطي ذلك صفة الكلية والضرورة، كما في قضايا الاستنباط التي تنتقل في أحكامها من كلي لانطباقه على الجزئي المتضمن في المقدمة بحكم قطعي لا مجال إلى رده.فلو سلمنا، كما في الاستنباط، أي كل طلاب الجامعة اللبنانية يقرءون اللغة العربية، وأن زيداً طالباً في الجامعة اللبنانية، إذن لا بد وأن نسلم بأن زيداً يقرأ اللغة العربية هذا حكم قطعي لا مجال لدحضه، فإن أخذنا بصدق المقدمات لا بد وأن نسلم بصدق النتيجة.كما أننا لا نستطيع تطبيق الاستقراء في الأحكام العامة. فالقول أن الإنجليزي بارد الطباع والفرنسي حاد الطباع لا ينطبق ذلك على كل فرد من أفراد الشعب الإنجليزي أو الشعب الفرنسي.إذ هذا حكم تقريبي وليس حكماً تقريرياً.هل قوانين العلم التي نتجت عن التجربة هي قوانين يقينية؟
إن العالم عندما يخضع ظاهرة ما للاختبار في معمله يجعل من المعمل أو المختبر طبيعة مصغرة يجمع فيها كل ما أمكنه من العناصر المؤثرة في المادة المراد اختبارها، من حرارة ورطوبة وضغط جوي … الخ ويعزل هذه العناصر أو بعضها، وبالتالي فهو حكم بعناصر الطبيعة لكي يشاهد تأثيرها في المواد المراد اختبارها. فغالبية عندما أسقط أجساماً مختلفة الأوزان لمعرفة مدى سرعة سقوط كل منها جعلها جميعاً في أحجام متساوية لكي يعزل عنصر مقاومة الهواء لها أثناء هبوطها من فوق برج بيزا.لكن العوامل المؤثرة في المادة هي من الكثرة بحيث لا يمكن لأي مختبر أن يدعي أنه استطاع عزلها أو التحكم بها جميعاً.إذ أن العلم قد اكتشف بعض عناصر الطبيعة، ولا زال أمامه الكثير منها لما يكتشف بعد. ففي اختبار التفاعل الكيمائي بين مادتين، أو مشاهدة نمو نبتة لا يمكن حصر العوامل المؤثرة جميعها في هذه الظواهر، ومعرفة أية أشعة كونية دخلت في هذا التفاعل وأثرت في مجرى عملية النمو أو التحول.فلكم اكتشف العلماء من هذه الأشعة مثل أشعة ليزر أو الأشعة السينية وكم منها لما يكتشف بعد، وكم عرف العلماء من عوامل تأثير هذه الأشعة على النباتات والخلايا الحية والتفاعلات الطبيعية وكم لم يعرفوا بعد.لكن العلماء يعملون ويختبرون ضمن ما هو معروف لديهم، أي ضمن إمكاناتهم المخبرية. لذلك فإن الاختبارات العلمية تبقى ضمن الممكن، إذ لو أمكن اكتشاف عناصر أخرى وعرف لها تأثير على الظاهرة المختبرة لكان لدينا نتائج مغايرة وبالتالي قوانين أخرى.
فعلية يبقى القانون العلمي ضمن مبدأ الاحتمال:أي في حال توفر كذا عناصر يحتمل الحصول على كذا نتائج، وفي حال توفر عناصر أخرى يحتمل الحصول على نتائج أخرى.وهكذا فإننا لا نستطيع الجزم والتسليم بصدق القانون العلمي، وإنما فقط باحتمال صدقه في نفس الظروف وعلى نفس العناصر.و " يبقى مسلماً بصحته ما لم تثبت التجربة خطأه " كما يرى أساطين العلم. يقول برتراند راسل: "أن العلم يقرر أحكاماً على سبيل التقريب لا على سبيل اليقين".وكم من الحقائق العلمية التي كان علماء عصر ما يؤمنون بها ثم سقطت بعد توفر التجارب الداحضة لها.ولا يستطيع أحد أن يجزم بثبات قانون علمي عبر العصور، دون أن يأتي يوم يمكن أن يقال عنه أنه خاطئ.ومثالنا على غالبية الذي أثبت أن الأجسام ذات الأوزان المختلفة تسقط إلى الأرض بنفس السرعة، هو دحض لنظرية أرسطو التي كانت تقول بأن الأجسام الأثقل هي الأسرع في السقوط، والتي عاشت حوالي الألفي سنة كحقيقة مسلم بصحتها بين جميع العلماء.كذلك كان العلماء يسلمون بأن الذرة هي الجزء لا ينقسم إلى أصغر منه.وإذا بعلماء هذا العصر يجزئون الذرة ويقسمونها إلى عناصر مثل البروتون والنيترون والنواة، ويعطون لكل منها وظيفة فاعلة في تركيب المادة وتوليد الطاقة.كما كان العلماء يعتقدون أن المادة لا تفني، فإذا بها تصبح لدى علماء هذا العصر تفنى.وهكذا نستطيع القول أن قضايا الاستقراء ليست يقينية ولا يمكن اعتمادها كطريقة فكرية لحل كافة مشاكلنا العقلية.
لكن هذه الطريقة العلمية التي نقلت الفكر البشري من التفتيش عن العلل الفاعلة للأشياء للبحث في العلاقات الثابتة لها التي تنظما القوانين العلمية، كانت خطوة جبارة في التقدم الحضاري وفي الارتقاء بالبشرية إلى ما هي عليه من مخترعات وتقدم صناعي، يجعلنا نسمع صوت متحدث من أقصى نقطة تبعد عنا على سطح الأرض أو يجعلنا نسيطر على الزمان بإنجاز الأعمال التي كانت تقتضي منا شهوراً من الجهد خلال ثوان، كما تعمل العقول الإلكترونية في دنيا الحساب. كذلك جعلنا نسيطر على المكان بـأن قصر المسافة بين أبعاد الأرض وبين الأرض والكواكب الأخرى، وجعل الإنسان ينتقل بواسطة الطائرات والصواريخ بسرعة تتجاوز الحصان، أداة الركوب الطبيعية، مئات المرات، بل آلافها.
واخضع أكثر عوامل الطبيعية لسيطرة الإنسان، وزود حواسه بآلات تريه آلاف المرات أكثر من طاقة رؤية العين، وتسمعه آلاف المرات أكثر من طاقة سمعه، وتجعله يحس ذبذبات كهرومغناطيسية يستحيل على حسه إدراكها مهما رهف.والأهم من هذا هو جعلها طموح الإنسان يتجاوز حيزا أرضنا لمحاولة السيطرة على الكواكب الأخرى وإخضاعها لتجاربه بغية هيمنة العقل البشري على مقدارتها والتحكم ما أمكن بقوانينها.هذه الطريقة عينيها، نحن لا ندعي إيجاد بديل عنها، لكن نحن لا نعترف لها بأنها الطريقة المثلى في كافة مجالات فكرنا، بل نبغي حصرها في دنيا العلم فقط والتعامل مع المادة وحسب، لا أن نتخذ منها طريقة فكرية تستخدم في جميع نشاطات فكرنا، أو نتخذ منها منهجاً نتيجة في بحثنا عن كافة حقائق الوجود.إذ بذلك نكون قد حملناها ما ليست هي مؤهلة لحمله. وهذا ما يحاول علماء العصر تحميلها إياه، مأخوذين بما قدمته للبشرية من نتائج باهرة، حيث أرقت حياتها وأعطتها التقدم العلمي الذي يفوق مستوى حلم إنسان الأمس الذي لم ينعم بمعطياتها.إذ أقول علماء العصر فإنني أعني بهم علماء الغرب والشيوعية على السواء ولا نحمل علماء العالم الثالث مسؤولية في ذلك، إذ هم ليسوا أكثر من شعوب مقلدة للكتلتين الأقوى، منبهرة بتقدمها العلمي والصناعي.
فالقرون الحديثة شهدت منذ عصر النهضة حتى يومنا هذا تحولاً عن الميتافيزيقا إلى العلم وطرقه التجريبية.وهي خيراً فعلت، فذاقت ثمار هذا التحول بما انعكس على حياتها من تقدم واسع كما أسلفنا. فحاول العلماء، منبهرين بتقدم التكنولوجيا، تطبيق هذه الطريقة العلمية الناجحة في شتى مجالات الفكر الإنساني، فقالوا مثلاً بعلم النفس وعلم التربية، وعلم الإنسان وعلم الاجتماع ظناً منهم أن جميع ما في هذا الوجود خاضع لحتمية ومحكوم بقوانين طبيعية لا يفلت عن مداها. فهم أبداً يفتشون عن تلك القوانين وعلاقاتها الثابتة للوقوف على حقائق هذا الوجود.لكنهم بعلمهم هذا، جعلوا من الإنسان مجرد تركيبات مادية خاضعة بتصرفها لهذه الحتمية أو تلك القوانين الثابتة، وأنكرها هو اختيار حر من حيث هو كائن مفكر، لذلك فهو غير خاضع للتجربة المخبرية، وبالتالي غير خاضع لقانون وعلاقات ثابتة كباقي عناصر الطبيعة.
علم النفس
ففي علم النفس، مثلاً حاول العلماء إخضاع الإنسان للتجارب بغية التوصل إلى معارف ثابتة يخضع لها الإنسان في تصرفاته، محاولين إرجاع كل عمل يقوم به الفرد إلى سبب أو علة ثابتة، مفتشين عن تلك العلل في جوانب النفس، وخصوصاً ما خفي منها، مفترضين الفروض الكثيرة، ومجرين التجارب المنوعة عليه.لكنهم لم يتوصلوا إلا لمعرفة بعض تصرفات الإنسان الناتجة عن غرائزه وحاجاته العضوية، فعرفوا مثلاً، استجابة الغدد اللعابية للطعام لدى إنسان جائع، أو ردة فعل الخوف لديه عند مشاهدة ما يثير هذا الخوف، وتأثير الغريزة الجنسية على بعض جوانب سلوكه، وعرفوا ميكانيكية الجسم البشري وحددوا بعض مهاراته.إذ في جسم الإنسان خضوع لقوانين الكائنات الحية كما في سائر الكائنات الطبيعية، فقاسوا مهارات أصابعه، وشدة حواسه، ومدى تحكمه بأعصابه.
فأفادوا عالم الصناعة من المهارات البشرية، وعالجوا بعض النواحي المرضية في نفس الإنسان بأن أرجعوها إلى كبت في الغرائز والرغبات أو العمليات إحباط جرت للكائن الحي.لكنهم عندما أرجعوا كل تصرفات الإنسان إلى هذه الغرائز والحاجات العضوية مفترضين فيه الخضوع التام لحتمية طبيعية كالمادة أو النبات، ضلوا طريقهم في متاهات لا نهاية لها، فوقعوا في ميتافيزيقا إنسانية من حيث أنكروا الميتافيزيقا كمعرفة.فقد اضطروا أمام هذا الكائن الغامض إلى تصور لوقائع ليست موجودة أصلاً.وأرجعوا بعض تصرفات الكائن البشري إليها مثل إرجاع الاكتشاف العلمي والإبداع الفكري والفني عند فرويد إلى عملية التصعيد وهي عملية لا واعية يقوم بها الإنسان في اللاشعور بتحويل طاقة مكبوتة فيه من مجال الجنس إلى مجال إبداعي.
أو إرجاعه الإيمان بالله، أو الكفر به، إلى عملية إسقاط الموقف تجاه الوالد في السماء بطريقة لا واعية. حيث يخلع الإنسان الصفات المتمثلة في الأب على الله، مثل القوة والعدل والمحبة والعطف. فيثبتها فيه ويؤمن به إذا كان في لا شعوره راضياً عن والده، وإلا فهو يكفر به ويخلع عنه تلك الصفات إذا كان عكس ذلك.أو رده ميل الصبي إلى أمه وميل الفتاة إلى أبيها إلى غريزة الجنس وعقدة أوديب.كل ذلك محاولات افتراضية تخيلية لم يستطيع العلماء تقديم البرهان القطعي عليها كما في براهين العلم. ولعلهم لن يستطيعوا ذلك لأنهم انطلقوا كفلاسفة الميتافيزيقا من مقولات غيبية لتفسير بعد ظواهر النفس الإنسانية.كما قال أولئك بتفسير أصل الوجود برده إلى أفكار ميتافيزيقية سقطت مع الزمن. إذ نرانا في اللاشعور، عند فرويد، الذي يحكم تصرفات الإنسان وكأننا في العقول المفارقة والصور الجوهرية عند فلاسفة الميتافيزيقا.
ومقاييس الذكاء عند بينية وأمثاله، التي حاولت وضع قياس ثابت لذكاء الإنسان، لم تستطيع تحديد الطاقة العقلية للإنسان كما تحدد طاقة المادة، وإنما أعطت مقياساً تقريبياً لبعض جوانب النشاط الذهني مثل: سرعة الفهم، أو مقدرته حل المسائل الحسابية. فقد يكون من نال درجة غبي في قياس بينية واحداً من كبار عباقرة الموسيقى أو الشعر، مثلاً.ومن نال درجة جيد الذكاء لا يستطيع أن ينال بين مجموعته المختبرية إلا درجة دون المتوسط في مادة الإنشاء.إذ الكثير من العباقرة كانت تبدو عليهم سمات التخلف العقلي، كما نقرأ في ترجمة حياة العبقري الكبير صاحب مئات المخترعات العلمية اديسون، الذي حكم عليه بعض أساتذته بالتخلف العقلي والبلادة الذهنية وهو في صفوف الدراسة الإبتدائية، ونصحوا أمه أن تأخذه من المدرسة وتلحقه بعمل يدوي، لأن ذهنه لا يؤهله لمتابعة دراسته.وربما يكون إنسان ضعيفاً في ناحية من نواحي النشاط العقلي وقوياً في ناحية أخرى.من ناحية نرى أن الإنسان لا يخضع لقوانين ثابتة في سلوكه كما تخضع باقي عناصر المادة أو الكائنات الحية.
بل هو اختيار حر لا نستطيع إخضاعه للتجربة المخبرية ولا بأي علاقات ثابتة. ومن ثم فلا يمكن للعلم الذي يدعى محاولة المعرفة بالإنسان أن يصبح علماً بالمعنى المتعارف للعلم، أي ينتج قوانين وعلاقات ثابتة يخضع لها الإنسان كما تخضع المادة، ويمكن التنبؤ بتصرفاته وأفعاله سلفاً، كما في علم الفيزياء والكيمياء مثلاً. فلا يمكن لعالم أن يدعي أنه يحصل من الإنسان على نفس الاستجابات كلما أعطى نفس المثير، فالحديد كلما عرضته للحرارة يتمدد، وكلما عرضته للبرودة يتقلص، في أية تجربة تجري. لكن الإنسان الذي تصفه لا تنتظر منه دائماً أنه سيصفعك، إذ هو حر في انتقاء الاستجابة مهما تكررت التجربة، فقد يصفعك، وقد يسامحك، وقد يشتمك، وقد يهرب منك، إلى آخر الاحتمالات الممكنة للإنسان.
كما أن الإنسان الجائع لا يرضى بإشباع حاجته إلى الطعام كيفما اتفق بأن يستولي على أول طعام يشاهده ليقوم بازدراده، كما تفعل الحيوانات. لكنه يكبت هذه الحاجة ويتحير إشباعها وفق أرادته ومقتضيات حاجاته النفسية الأخرى.كذلك في الاستفتاءات التي يقوم بها علماء النفس للحصول على إجابات من المراد إجراء الدراسة عليه. فالإنسان يعجز عن استيطان أحواله النفسية بدقة،خصوصاً إزاء الأسئلة المعقدة. كما أنه لا يركن إلى أمانته في الإجابة عن الأسئلة الشخصية لأنها تضايقه.كذلك يختلف فهم الأسئلة المعطاة بين إنسان وآخر، والحالة النفسية التي يعيشها في لحظة طرح الأسئلة تختلف بين فترة وأخرى.إذ لا ثبات مطلقاً في أحوالنا النفسية. وهي " كنهر جار لا تستطيع غسل يديك في نفس المياه فيه مرتين ". فالإجابة التي يجيبها شخص عن حالته النفسية اليوم قد تكون غيرها غداً.
وهنا تبرز أهم مميزات الإنسان وهي الحرية والإرادة في التخير، لما وجب عليه عقاب القوانين الإلهية منها والوضعية. فلو كان الإنسان خاضعاً لحتميته، كما تخضع عناصر المادة، لما جاز عليه العقاب عندما يقوم بإشباع إحدى غرائزه بطريقة غير مشروعة.فالذي يسرق إنما يشبع غريزة التملك لديه بالاستيلاء على مال الغير، وهو حر في إشباعها بطرق أخرى لا تعرضه لأي لوم أو عقاب.وخلاصة القول أن تطبيق الطريقة العلمية على كل جوانب النفس الإنسانية محاولة فاشلة وتحميل للعلم فوق ما يحتمل.إذ لو اقتصر ذلك على آلية الجسد والاستجابات العضوية ومهارات الأعضاء وأمراض الإحباط وغيرها مما لا تعلق له بعقل وإرادة الإنسان، كما في علم النفس الصناعي وعلم النفس المرضي، لنجحت المحاولة. لأن عالم العقل والحرية والإرادة عالم من التعقيد واللامحدودية بحيث لا يمكن أن تنظمه قوانين علمية أو معايير ثابتة.
علم الاجتماع
كذلك في علم الاجتماع. فقد افترض العلماء أن المجتمعات البشرية محكومة بحتية ثابتة كسائر الظواهر الطبيعية، فراحوا يفتشون عن علاقات ثابتة لتكون وتطور المجتمعات، فأخضعوها لتجاربهم عن طريق القيام بعمليات الإحصاء والمسح الاجتماعي للوقوف على تلك العلاقات ومحاولة الوصول إلى القوانين لكي يتحكموا بتطور المجتمع بعد كشف ظواهره.
فاوغست كونت، مؤسس علم الاجتماع الوضعي هو عالم رياضيات وطبيعيات حاول أن يدرس الظواهر الاجتماعية على نفس النحو الذي يدرس به ظواهر الطبيعة، فراح يفتش عن القوانين الاجتماعية معتبراً أن المجتمع ما هو إلا جزء من الطبيعة، يماثلها تماماً، فاستخدم لذلك المناهج العلمية عينها، وباعتبارها أن ظواهر المجتمع هي ظواهر صادرة عن الطبيعة.وهكذا فقد طغت هذه النظرة المتعالمة ( أي التي ترد كل معرفة إلى الطريقة العلمية ) على الدراسات الاجتماعية، ومردها يعود إلى الروح الذي ساد ما بعد الثورة الفرنسية حيث اعتبر أنصارها أن الثورة، كما كان لها بعد سياسي، فإن لها أولاً بعدها الفكري.فكلما جرى تحطيم الإقطاع والملكية، كذلك يقتضي تحطيم المفاهيم والطرق الفكرية السائدة وخلق آفاق متحررة جديدة.وهذه الآفاق، التي ولدتها الثورة الفرنسية، لم تكن إلا سيطرة الروح العلمي وإتباع الأساليب العلمية في كافة نواحي المعرفة.فاقترح سان سيمون علمياً منظماً للظروف والحالات الاجتماعية، بغية الوقوف على ظواهر المجتمع بقصد إعادة تنظيم المجتمع الفرنسي، وبالتالي الأوروبي على أسس حديثة. لكن سان سيمون لم يحدد منهجاً لهذا العلم المقترح.فجاء تلميذة كونت ووضع الأسس والمنهج على غرار العلوم الطبيعية التي كانت هي المسيطرة على الفكر الأوروبي المبهور بالإنجازات العلمية.لا شك بأن علم الاجتماع خطا خطوة جبارة يوم انفصل عن الفلسفة ولم يبق مجرد علم نظري ينحو المنحى الميتافيزيقي الصرف.
ولا شك أن علم الاجتماع الحديث فسر الكثير من العلاقات الاجتماعية عن طريق الإحصاء والمقارنة. ولكن يستحيل عليه أن يصبح علماً بمعنى كلمة علم Scince لأن العلم هو علم بالظواهر الطبيعية الصادرة عن عالم الجمادات والموجودات المادية. أما الظواهر الاجتماعية الصادرة عن عالم البشر فهي ظواهر معقدة متحركة لا ثبات لها، حيث لا يمكن عزلها أو ضبطها أو قياسها إجراء التجارب المعملية عليها.وبالتالي لا يمكن استخلاص القوانين الثابتة منها كما في العلوم الطبيعية. ففي العلم السوسيولوجي يستبعد القياس الكمي المحدد الذي هو معيار الحقيقة وثباتها في العلم الطبيعي، بل يستعمل علم الاجتماع القياس الكيفي.إذ يمكن أن نقيس طول الإنسان ووزنه ودرجة حرارته وضغط دمه بأرقام ثابتة. لكن لا يمكننا مجال أن نقيس قيمته أو درجة ثقافته أو مستواه الخلقي قياساً محدداً رقمياً، وإنما تواضع علماء الاجتماع على كيفيات مجردة مثل: أسلوب الحياة، وسمات الثقافة، وتحديد الطبقة الاجتماعية.
وتلك مفاهيم يستحيل معها استعمال لغة الكم والمقاييس والمعادلات العلمية الدقيقة.فعلماء الطبيعة توصلوا بفضل القوانين الثابتة التي امتلكوا ناصيتها إلى التنبؤ بنفس النتائج في قياس ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة مهما تكررت التجارب.فعلماء الفلك يتنبئون بظاهرة كسوف الشمس لدى توسط القمر بينها وبين الأرض بتاريخ محدد باليوم والساعة والدقيقة.وعلماء الطبيعيات يتنبئون بهطول الأمطار في الطبيعة لدى حصول درجات ضغط ورطوبة محددة تلتقي معاً في زمن معين.ويتنبأ الكيميائيون مثلاً، بحصولهم على الماء في كل مرة يتفاعل فيها الهيدروجين مع الأكسجين ضمن عوامل طبيعية محددة.لكن علماء الاجتماع لا يستطيعون من دراستهم لظاهرة اجتماعية ما مهما تكررت، الإجماع على التنبؤ سلفاً بنفس النتائج.فلا يستطيع العلماء الإجماع، مثلاً، أن عمال مصنع سوف يضربون عن العمل حتماً إذا توفرت شروط معينة لذلك، والإجماع على التنبؤ سلفاً بأن ثورة سوف تحدث في بلد ما، ولا التنبؤ بمداها وأبعادها وزمانها، وإنما تبقى أبحاثهم في ذلك مجرد وجهات نظر متضاربة تتحكم فيها العوامل الذاتية والشخصبية، ويكون البت فيها لحرية الجماعة.ورغم قيام بعض علماء الاجتماع الديناميكي بوضع أسس لتطور المجتمعات فإن أسسهم هذه بقيت مجرد اجتهادات لم يتمكنوا من إقناع جميع العلماء بها، بل بقيت مجرد نظرية فردية عارضها البعض وأيدها البعض الآخر.
فنظرية هربرت سبنسر الإنجليزي في التطور البشري بأنه دائماً يسير من حالة التجانس إلى حالة اللاتجانس، لم تأخذ صفة الضرورة والعموم رغم إعطائها صفة القانون، ورغم اسنادها إلى قوانين ثابتة، مثل: قانون ثبات القوة، وقانون عدم فناء المادة ( الذي ثبت بطلانه حديثاً )، وقانون اضطراد الحركة.وبقيت مجرد فرض لم يستطع إخضاعه للإختبار العلمي. ذلك أنه أنطلق من مسلمة خاطئة، وهي اعتباره أن المجتمع كجسم الكائن الحي ينمو ويتطور ضمن حتمية ثابتة لا محيد له عنها، ولم يفرق بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة البيولوجية.ونظرية ماركس، حول الصراع الطبقي وحتمية تطور المجتمع نحو الشيوعية، لم تصل إلى مستوى الحقائق الثابتة التي يجمع العلماء عليها، وتصبح إحدى مسلمات الفكر البشري، بل قامت ضدها آراء متناقضة بين مؤيد ورافض.
ومرد ذلك، كما بينا، إلى أن المجتمعات البشرية، ليست مجرد كتلة جامدة لا حياة فيها، بل، " هي مجتمعات حية لا تخضع لنفس القوانين الفيزيقية التي تحكم الظاهرات الطبيعية الجامدة الخرساء " على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي هاليفاكس.وقد بلغ حماس بعض علماء الاجتماع أمثال لابلانش وراتزل إلى إيجاد علم ثابت للمجتمعات، إلى أن ربطوا ظواهر المجتمع ربطاً حاسماً بالظواهر الطبيعية البيئية، وأخضعوا أشكال المجتمعات لعلاقاتها بالبيئة الفيزيقية وتأثيرها الأرضي أو الطبيعي، بمعنى أنهم أخضعوا المجتمعات لحتمية البيئة، متناسين دور الإنسان وحريته في الاختبار، جاعلين منه عنصراً من عناصر الطبيعة، وعبداً خاضعاً لها، كالشجر أو الحيوان. فشجر الصبير هو من نتائج الصحاري الحارة. والدب القطبي هو ابن البيئة القطبية الشديدة البرودة.
وكذلك الإنسان فهو ابن بيئته الطبيعية يخضع لتأثير عواملها فيه.فلا ينبغي إذن، كما في رأيهم، أن ننظر إلى المجتمعات البشرية وكأنها مجموعة من الأشجار انتظمت في غابة.أو مجموعة من قطعان الماشية جمعها المعاش والمرعى.أو كأنها سرب من أسراب الطير أو السمك.ولا أن نحكم عليها حكماً عددياً أو رقمياً.فما هذه إلا مجموعة من أفراد ذوي ارادات حرة تختار وتؤكد طريقة وجودها وتناميها الثقافي والاجتماعي عبر الزمان والمكان.
فلا أحد إذن يستطيع أن يحكم على تطور المجتمعات وينبأ بمصيرها سلفاً. إذ نجد أن مجتمعاً رأسمالياً صناعياً، كالمجتمع الألماني، ينحو بعد الحرب العالمية الأولى منحي الديكتاتورية، بينما يختار شعب آخر كالشعب الإنجليزي الرأسمالي والصناعي أيضاً، النظام الديمقراطي منهجاً جياتياً.ولرب معترض يقول أن انتصار الشعب الإنجليزي في الحرب العالمية الأولى هو الذي جعله يرضى عن نظامه ويحافظ عليه. بينما ولدت الحرب ظروفاً أخرى للشعب الألماني الذي قهر في الحرب فاختار تغيير ظروفه إلى نظام عنصري مبني على القوة لإعادة كرامته المهدورة، وتحصيل ما فقد في الحرب.أجل تلك الظروف إياها أعني. إذ إن نفس الظروف مرت على الشعب التركي وهزم مع ألمانيا في نفس تلك الحرب، لكنه أختار عوضاً عن الانتقام والحرب لاسترجاع ما افتقدته إياه تلك، وقد أفقدته كل ممتلكات إمبراطوريته التي كانت تمتد بين الشرق والغرب، أختار الحياد الحذر بين الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، والابتعاد ما أمكنه عن ويلات الحروب التي عانى منها الكثير.
وخلاصة القول أن الإنسان، كفرد أو جماعة، هو اختيار حر، لا يخضع، في تفكيره وفي أعماله، لأية حتمية.بل هو صانع فكره، ومقرر أعماله، بالإضافة إلى كونه عالماً شاسعاً لا متناهياً، ولا تحده أية قوانين ثابتة.لذلك فعلم الاجتماع هو علم إنساني، لم يبلغ درجة العلوم التجريبية والعلاقات الثابتة للظواهر، ولا ب\يعتبر عنه بقوانين كسائر العلوم الطبيعية.وبالتالي فإن الطريقة الاستقرائية العلمية لا تصخ فيه كما تصح في العلوم الطبيعية.
الطريقة العقلية
يأخذ الفكر المراحل التالية للوصول إلى الحقيقة :
1 ـ مرحلة فهم الألفاظ، أي صحة مطابقتها للواقع. وهذه تؤخذ بأكثرها من التعلم.
2 ـ ملاحظة الواقع.
3 ـ الحكم العقلي المباشر. وهو أبسط أنواع التفكير، الذي يعتمد الواقع، ثم الحس بهذا الواقع ( عن طريق الملاحظة ) ثم المعلومات السابقة عن هذا الواقع، ثم الدماغ الذي يربط بين معطيات الحس بالواقع والمعلومات السابقة عنه، فيصدر الإدراك العقلي الأول أو الحكم، وذلك بواسطة الألفاظ ذات المفهوم المسبق.
4 ـ الاستنتاج. وهو مرحلة لاحقة للأولى، وترتقى بها من الحكم الجزئي إلى الحكم الكلي في عملية تعميم للحقيقة الفكرية.
5 ـ الاستدلال الاستنباطي وهو آخر مراحل العملية العقلية، وينقل من الكلي إلى الجزئي ليطبق ما هو عام على ما هو خاص.
فالطريقة العقلية الاستقرائية تشمل النقاط الأربع الأولى التي لا بد من أن تسبق الاستنباط لكي نتمكن من استخدامه لتطبيق عمومية الاستقراء العقلي على الجزئيات.
نشاهد عصفوراً دورياً يطير في الفضاء، ونفهم بواسطة معلوماتنا السابقة أن هذا الطير الذي يطير هو عصفور دوري، وأن ما يقوم به من حركة في الفضاء بواسطة جناحيه هو طيران، فنحكم بأن الدوري يطير، بعد فهمنا لكلمات: عصفور، ودوري، ويطير.ونشاهد قبرة تطير، وسنونو يطير، وشحروراً يطير، فنحكم على كل منها بأنه يطير.ثم نستنتج بحكم عقلي بأخذ حالة التعميم بقولنا: إن العصافير تطير.الطريقة التي أدت بنا إلى هذه النتيجة العامة هي الطريقة الاستقرائية، ومنها نأخذ أولى قضايا.
الاستنباط كما يلي :
إن العصافير تطير. والزرزور عصفور. إذن الزرزور يطير. فننقل من حكم عقلي عام في القضية أن العصافير تطير لنستنبط منه الحكم الخاص، أن الزرزور يطير.
فيقين هذه النتيجة المنطقية لم يأت من مجرد انسجامها مع مقدماتها، بقدر ما جاء من مطابقتها للواقع الذي هو محك الحقيقة الفكرية.وبهذا نكون قد زودنا بالبعد الواقعي الذي هو معيار الحقيقة.
تلك هي الطريقة العقلية التي يقتضي اعتمادها للوصول إلى سلامة أفكارنا، سواء أكان ذلك في عالم المحسوسات أم في عالم الأفكار كبحث الأيدلوجيات والعقائد والتشريع.لكن الطريقة العلمية، وهي التي تعتمد التجربة أساساً للاستنتاج، وتخضع المادة للاختبار ولا تعترف بحقيقة لم تجر التجربة عليها.وهذه الطريقة تنحصر في عالم المادة التي يمكن إخضاعها للتجربة المخبرية.وهي جزء من المعرفة الإنسانية ينحصر في العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والتشريح. ولا يتعداه إلى العلوم الإنسانية والعقلية التي تعتمد الطريقة العقلية، أي الملاحظة والحكم والاستنتاج منهجاً لها.هذه الطريقة الاستقرائية العقلية عينها هي طريقة القرآن الذي يحث الإنسان على النظر، أي الملاحظة ثم الحكم العقلي أو الإدراك ثم الاستنتاج.كما في قوله: " فلينظر الإنسان مم خلق ". أي فلير ثم يدرك طريقة خلقه، ليستنتج من كيفية هذا الخلق العجيب مدى قدرة خالقه وصانعه.وفي قوله: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الجبال كيف رفعت ". " إن في خلق السموات والأرض لآيات لأةلي الألباب ". " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ".كل هذه الآيات وأمثالنا تدعو الإنسان لأن ينطلق بفكره من وقائع يشاهدها الحس ويدركها العقل لكي يستنتج ما يوصله إلى حقيقة خلق هذا الكون.وبالتالي إلى معرفة وجود الخالق العظيم.
نخلص مما تقدم إلى أن تحمس العالم الغربي والعالم الشيوعي للطريقة العلمية والأخذ بها في أكثر نواحي المعرفة، ولا سيما في المعارف الإنسانية، هو تحميل لها فوق ما يمكنها أن تحتمل. وشرود عن جادة الحقيقة.ومرد ذلك إلى المفاهيم التي تسود فكر الغرب والشيوعية، على السواء، في تفسير ظواهر الوجود.
فهم ينطلقون في تفكيرهم من مسلمة خاطئة، وهي إن هذا الوجود هو وجود مادي وحسب. وكما أن المادة ـ وفق مكتشفاتهم ـ تخضع لحتمية ولعلاقات ثابتة، يعبر عنها بدوال وأرقام وقوانين. فلا بد إذاً وإن كل ما في الوجود خاضع لنفس هذه الحتمية، بما في ذلك عالم الإنسان الذي هو جزء لا يتجزأ من هذا الوجود المادي.فراحوا، وفق هذا المفهوم، يخضعون الإنسان لنفس الطريقة التي أخضعوا لها المادة، محاولين علمنة كل شيء، أو تعميم الطريقة العلمية واعتبارها الطريقة المثلى في التفكير، جادين لاكتشاف القوانين الثابتة.لكنهم لن يصلوا إلى أية قوانين وإلى أية معرفة علمية تتعلق بالإنسان ذاته.ذلك أن عالم الحرية والإرادة والعقل. عالم لا يخضع لأية حتمية أو علاقات ثابتة، كما تخضع المادة اللاوعية.أنهم قادرون على أن يخضعوا جسد الإنسان لتجاربهم المخبرية والحصول على نتائج باهرة في معرفة وظائف الأعضاء والغدد والخلايا، وتحديد نشاطها، وتبيان وظائفها.
لكنهم فشلوا ويفشلون في تفسير نشاطات العقل الإنساني وتحديد سيره، وقياس قدراته، وسيرأغوار النفس الإنسانية، ومعرفة ما خفي من جوانبها.كذلك فشلوا في الوقوف على حقيقة الإرادة الإنسانية، وأية عوامل تتحكم بها في اختيار أعمال الإنسان كفرد وكجماعة.لا شك أنهم توصلوا إلى بعض المعارف في هذا الحقل.لكن معارفهم هذه ظلت نوعاً من الظن والتخمين والافتراض، بعيدة عن مستوى الحقائق العلمية أو اليقين الفكر.
كما بينا في باب علم النفس وعلم الاجتماع.
لذا يقتضي حصر طريقة الاستقراء المادي أو الطريقة العلمية، الني تعتمد الاختبار والتجربة أسلوباً أساسياً لها، في دنيا المادة وحسب، وعدم تطاولها إلى المعارف الإنسانية.واعتماد الطريقة الاستقرائية العقلية التي تقوم على الملاحظة والأحكام العقلية المباشرة والاستنتاج، واعتبارها الطريقة الأساسية في جميع نشاطاتها فكرنا، لأن فيها تصح يقينية أحكام الوجود.
وعلى مدركاتها تستند كل حقائق العلم وطرقه التجريبية. فلا يستطعن عالم القيام بتجربة أو اختبار إلا بعد صدور أحكام العقل الأولية والاعتماد عليها كثوابت تنطلق منها لاجراء التجارب العلمية والتثبت من نتائجها.كما ينبغي معرفة الطريقة العقلية في ما هو واقع أو ما له واقع يدل عليه. متدرجين بها من انطباع الحس، أو الحدس الحسي، إلى الحكم العقلي المباشر، ثم الاستنتاج ثم الاستنباط.وبهذا تكون طريقة الاستقراء العقلية هي الأساس في معرفتنا. وهي الكل الذي تتفرع منه الطريقة العلمية ويستند إليه الاستنباط.
طرق الفكر: ب ـ الاستنباط
يقين المعرفة ـ اليقين الرياضي
اليقين المنطقي
مقدمة
غاية المؤلف دوماً تمهيد الفكرة للأذهان حتى تستوعبها، وتعي مغازيها وتجعل منها منطلقاً موازناً ومتعامداً مع كل فكرةٍ مثمرةٍ. وهذا ما هدف إليه الأستاذ " محمد أبو حمدان" في كتابه.
فقد ترجم أفكار (الإنسان) بلغة هذا العصر ومعطياته الثقافية والفلسفة والعلمية. ناقلاً الفكر الديني من كونه مسلمات مصدق بصحتها سلفاً، إلى تواجده في ثقافة القرن العشرين، ليصبح إحدى الثقافات الفاعلة في تطوير المفهوم الإنساني، بل الثقافة الأولى التي شعت وسمت على يده، لتأخذ مركز الصدارة في ثقافة هذا العصر، مرتقية بالفكر الفلسفي لتشرق شمسه مجدداً، وتنير سائر المفاهيم والأيدلوجيات بنور المعتقد الإلهي عن طرق العقل، ومعطياته الفكرية التي تتلاءم مع كل عصر، ومع كل مجتمع.فالإنسان لم يعد بعقله ابن العصور الأولى. بل أصبح مع الأستاذ "محمد أبو حمدان" ابن هذا العصر، بكل ما في هذا العصر من مفاهيم فلسفة.
فهذه الأبحاث هي الدين بلغة العصر، وهي فكر العصر بلغة الدين إذ الدين والفكر توأمان، فحيث لا فكر لا يوجد دين. وحيث لا دين، ليس ثمة أفكار تعاش، والدين هو التعبير الصحيح عن وعي الإنسان لخالقه ولذاته وللآخرين. هو الرسالة الدائمة العطاء التطور، الدائمة الاشعاء، هو محك الإنسانية، والربط الأسمى للعلاقات البشرية.
طرق الفكر
ب ـ الاستنباط
فالاستنباط القياسي أو المنطق الصوري هو الاستدلال الذي يهتم بسلامة الانتقال من المقدمات إلى النتيجة اللازمة عنها انتقالاً جدلياً. وكما أنه أصلاً يوصل إلى نتائج فكرية سليمة مثل:
المعادن تتمدد بالحرارة.
والحديد معدن.
إذن الحديد يتمدد بالحرارة.
ففي المنطق الصوري لا يعنينا إذا كانت المعادن تتمدد فعلاً أو لا تتمدد، بقدر ما يعنينا الوصول إلى سلامة الاستدلال بمراعاة القواعد المنطقية.كذلك، فالمنطق يوصل إلى نتيجة صادقة من مقدمات كاذبة، أو غير يقينية. ففي العبارتين: كل إنسان طائر. وكل طائر عاقل. نحصل على النتيجة المنطقية. كل إنسان كائن عاقل.النتيجة صادقة، والاستدلال سليم، من حيث قواعد المنطق. ولكن المقدمتان الأولى والثانية كاذبتان من حيث الواقع.ويمكن من مقدمات كاذبة أن نصل إلى نتيجة كاذبة مثل: كل إنسان شجرة، وكل شجرة طير. إذن كل إنسان طير. فالنتيجة هنا كاذبة لكن الاستدلال صحيح.نخلص مما تقدم إلى المنطق الصوري لا يهتم بعباراته إذا كانت صادقة صدقاً واقعياً، أم كذباً واقعياً. وإنما يهتم اهتماماً أساسياً بسلامة الانتقال سلامة قياسية، أي يجب أن تكون عباراته منسجمة مع بعضها انسجاماً منطقياً بحيث يتم فيها اتفاق الفكر مع نفسه وليس مع الواقع، بما يسمى بمبدأ الاستنباط القياسي.
هذا المنطق الصوري الاستنباطي، هل يصلح لأن يكون منهجاً فكرياً يعتمد عليه في سلامة أفكارنا وبعدها عن الشطط، والوصول إلى حقائق يقيني.إن هذا النوع من الاستدلال مرفوض كطريقة عقلية وحيدة تنهج للوصول إلى فكر أسلم، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ إنه لا يعتمد الواقع في صدق عباراته أو أحكامه. وكل فكر لا يستند إلى واقع لا يعتبر فكرياً صحيحاً. إذ الفكر عندنا هو الحكم العقل على واقع. (كما بينا في بحثنا الفلاسفة والفكر الإسلامي).
2 ـ كونه لا يهتم بعباراته إذا كانت صادقة أم كاذبة، فهذا يعني أنه لا يهتم بصدق نتائجه، بل ينصب اهتمامه على انتقالها منطقياً، أي صحة انسجامها مع بعضها.
3 ـ إن منهجاً لا يعنيه مطابقة قضاياه للواقع، بل يهتم بانسجام الفكر مع نفسه، لا يصلح لأن يعتمد كطريقة فكرية سليمة لبناء معارف نهائية.
4 ـ إن مقدماته تضمر نتائجه، لأذلك فهو لا يكشف عن حقائق جديدة، وإنما يعطي صوراً جديدة لمعارف سبقت معرفتها بصورة أخرى.
5 ـ إن الكثير من الأفكار التي اعتمدت المنطق الصوري في بحثها عن الحقيقة ضلت الطريق، رغم تحمس أصحابها لها، ورغم انسجام قضاياها فيما بينها. ولنعط مثالاً بيناً من تاريخ الفكر المنطقي الارسطي، مسألة الواحد والكثرة. لن تتوقف كثيراً عند هذه المسألة الميتافيزيقية في العهود اليونانية، لنتوسع بها عند ابن سينا، لقد بين هذا الفيلسوف بطريقة منطقية أو جدل باطني في العقل الالهي أو العقول المفارقة انبثاق الوجود المتكثر من الوحدانية الألوهية.
يرى ابن سينا أن الله عقل، ومن حيث هو عقل، إذن فله معقولات. أول هذه المعقولات أنه يعقل ذاته أو يعقل مبدئيته. ولما كان كل ما يعقله الله فهو يفيض عنه بالضرورة، وذلك لأن عقله تعالى عين إرادته. فمن تعقله لمبدئيته يفيض عنه أول وجود، وهو العقل الأول، باعتباره معلولاً للألوهية. إذ لا يصدر عن الواحد إلا الواحد.لكن العقل الأول له معقوليته، وأول هذه المعقولية أنه يعقل علته أي الألوهية، وهذا أشرف معقول. وثانيهما أنه يعقل ذاته واجبة بالألوهية، وهذا مقام أقل شرفاً من الأول. وثالثاً أنه يعقل ذاته ممكنة في ذاتها، وهذا النوع أخس المعقولات شرفاً. عن التعقل الأول والأشرف صدر أشرف موجود بعده، وهو العقل الثاني. وعن التعقل الثاني والأوسط شرفاً صدر نفس الفلك الأول. وعن التعقل الثالث والأخس شرفاً جسم الفلك الأول.
وهكذا يستمر انبثاق الوجود المتكثر عن الواحد حتى العقل العاشر أو العقل الفعال.هذه واحد من القضايا الميتافيزيقية التي فيها المنطق بأدق جدلية، والتي سقطت، عبر تاريخ الفكر، كنتائج فكرية سليمة وماتت مع كثير من الأفكار التي تخلت عن الواقع واعتمدت الجدل أساساً في وجودها. واكتفت بانسجام الفكر مع نفسه.
واستطراداً، إننا قد نصل عن طريق المنطق إلى أفكار خاطئة، كما أن بعض من لم يدرسوا المنطق يأتون بأفكار سليمة. فليس المنطق إذاً ضرورة من ضروريات الفكر.الفيلسوف الألماني كانت اعتبر المنطق ولد كاملاً منذ أرسطو وأنه لم يخط خطوة إلى الأمام بعده. وسبب اكتماله هو أن موضوعه بسيط، فهو صور الفكر حين يستنبط. فالفكر هنا يبحث في شيء خارج عن ذاته. لكن بعضهم ذهب إلة تطويره وإخراجه في صورة رياضية مغايرة للمنطق الأرسطي.ومر المنطق عبر تاريخه بعدة محاولات للتقريب والدمج بينه وبين الرياضيات، فنشأت عدة مدارس وعدة تسميات أهمها: جبر المنطق، والمنطق الرياضي، والمنطق الرمزي. وغاية هذه المدارس جميعاً تلتقي عند إخراج المنطق بالشكل الرياضي الذي يسمح باستنباط الرياضيات منه، وباستعمال الرموز بدل الحدود والقضايا والعبارات اللغوية المقيدة للاستنباط. والعلماء الذين أخرجوا هذه الأنواع من المنطق لم يكونوا مناطقه بقدر كونهم رياضيين.
لقد حصر أرسطو الاستنباط كله في القياس وحده، مما ضيق مجال الاستنباط وجعل المناطقة المحدثون يوسعون نطاقه ليشمل قوانين أخرى غير قياسية، معقدة أحياناً، تشبهاً بالعلم الرياضي، والتي أصبحت معروفة الآن باسم اللوجستيكا، حيث أضيفت إلى المنطق بعض الثوابت التي تستعملها الرياضيات، فغدت تؤلف فيما بينها نسقاً استنباطاً مستقلاً. ولما كان المنطق هو علم الاستنباط ـ وهذا يعتبر القاسم المشترك بين جميع العلوم ـ فاللوجستيكا هي إذن نظرية حسابية لقوانين الاستنباط التي يتوصل إليها بطريق البرهان. واصطلاحاً هي تعني المعالجات الرياضية للمنطق وبرهنته قوانينه دون مثولها بالبداهة. فهي ترد الرياضيات بكليتها إلى المنطق بحيث تصبح جزءاً منه وامتداداً لقوانينه. كما أنها ألزمت المنطق بالتخلي عن أساليبه القياسية التقليدية ليأخذ من الرياضيات رمزيتها وآليتها في حل قضاياه. ففي اللوجستيكا اتحد المنطق بالرياضيات كما قال راسل: "المنطق شباب الرياضيات والرياضيات رجولة المنطق". وهذا يعني الالتحام التام بين العلمين.
والسؤال الآن...هل نجح المنطق الرياضي حيث أخفق المنطق القياسي؟ وهل استطاع المناطقة المحدثون إنقاذ المنطق الصوري بعد إغراقه في رمزية الرياضيات ؟
قبل مناقشة المنطق الحديث أو اللوجستيكا لا بد من التنويه إلى أن محاولة دمج المنطق الصوري بالرياضيات كانت الغاية منها دعم موقف الرياضيات وليس المنطق. وأن جميع الذين انتهجوا هذا المنهج هم رياضيون وليسوا مناطقة، وأن التشابه بين الإثنين تشابه ظاهري أكثر منه تشابهاً حقيقياً. فهو تشابه بالرمز، والرمز لا معنى له في ذاته ما لم نعطه نحن هذا المعنى المنطقي من عندنا.إذ عندما استقلت الرياضيات عن العلوم، ولم تعد تخضع للحدس المكاني، الذي كان أساس اليقين الرياضي في الأشكال الهندسية، ونشأت لديها هندسات غير اقليدية، لا ترتبط بالحدس المكاني، وأعداد لا يقبلها الحدس والبداهة مثل العدد ، ومثل الأعداد التخيلية. راح الرياضيون يفتشون عن مخارج تعيدهم إلى اليقين الرياضي، فلجأوا إلى الأعداد متخذين منها معياراً لكل يقين.
لكن هذا التراجع من المذهب الحدسي إلى المذهب الحسابي لم يعط الثقة الكافية، والسند الأوثق للرياضيين. ولم تكن ثقتهم بالأعداد نهائية وثابتة. فراحوا يفتشون عن سند أثبت، فلجأوا إلى المنطق وأخرجوه بصورة رياضية، ووضعوا له حدوداً ،مسلمات تشتق منها قضاياه. كما وضعوا ثوابت منطقية، وادخلوا فكرة المتغيرات في قضايا المنطق، ورفضوا كل قضية ليست مبرهنة منطقياً أو مسنتبطة من قضية قام البرهان عليها. فاتخذ المنطق بما يسمى النسق الاستنباطي Systeme deductif.كذلك ذهب بعض جبريو المنطق مثال جورج بول الإنجليزي وشريدر الألماني ولويس كوتوراه الفرنسي إلى اعتماد الطرق الجبرية في حل مسائل المنطق لجهة استعمال الرموز الجبرية، وطبقوا المعادلات الرياضية وقواعد الحساب الرياضي. كما قبلوا تفسيراً عددياً لنتائج المنطق. وأن يكن هذا التفسير العددي ينحصر بين صفر وواحد. أي لا تصدق نتائجه إلا في حدود عددين فقط. وهاتان القيمتان (صفر وواحد) تقابلان قيمتي الصدق والكذب المنطقيتين بالترتيب. فجبر المنطق اعتبر المنطق جزءاً من الرياضيات ونظرية من نظرياتها. لذلك فإن هذه المحاولات فشلت في إعطاء المنطق أي بعد علمي.
أما المنطق الرياضي الحديث فهو يرد الرياضيات برمتها إلى المنطق بحيث تصبح جزءاً منه وامتداداً لقضاياه كما عند برتراند راسل الفيلسوف الرياضي المعاصر. إذ غدا المنطق بحثاً رياضياً صرفاً، مغرقاً في الرمزية، مبتعداً كل البعد عن الوقائع، محرراً من الألفاظ، وتعالج قضاياه معالجة آلية، كما هو الشأن في الجبر لكن ضمن نسق استنباطي كما قدمنا.والآن لنتوقف عند هذا المصطلح الذي يعتبر الأساس في المنطق، حيث نجد له تسمية سابقة عند أرسطو، في تحليلاته الثانية، باسم العلم البرهاني.
يعني المحدثون بهذه التسمية بأنها طريقة موحدة لحل جميع قضايا علم من العلوم بناء لمصطلحات أولية مسلم بها، بحيث تعتمد لبرهنة كل قضايا لاحقة في هذا العلم. فهناك مجموعة قليلة من المحدود نفهم معناها دون تعريف تؤدي بنا إلى مجموعة أخرى من القضايا يقبلها العقل استناداً إلى الأولى دونما برهان فنسمي متعارفة Axiomes، أما ما يطلق عليه في الاستعمال العادي بالمسلمات أو البديهيات.هذه الأسس الأولية تكون منطلقاً لبرهنة جميع قضايا علم من العلوم، بحيث لا تقبل قضية جديدة إلا إذا قام البرهان عليها، ونتجت عن القضايا الأولية، أو ما سبق أن برهناه بواسطة حدودها، حتى تغدو كل قضية لاحقة مستندة في برهانها إلى قضايا سابقة ثبتت صحتها بالبرهان المنطقي، حتى يغدو لدينا مجموعة متتالية من النظريات المبرهنة، أو ما يسمى بالنسق الاستنباطي كما في علم الهندسة، أو ما اصطلح العلماء على تسمية بالأكسيوماتيك.
هنا نطرح السؤال التالي..هل نجح المنطق الرياضي في اتخاذه هذا النسق للوصول بالفكر الإنساني إلى ما قصر عن بلوغه المنطق الصوري؟ أي هل يمكننااعتماده بشكل نهائي كوسيلة لسلامة أفكارنا والوصول إلى اليقين؟
وجوابنا على ذلك بلا، لماذا؟
1 ـ إن هذه الطريقة في رأينا طريقة مثالية لا يمكن تطبيقها في أكثر المعارف الإنسانية. إذ عندما نعرف حداً أو قضية فإننا نستعمل عبارات أخرى. وعندما نحاول تعريف الأخيرة، فإننا نستعمل عبارات غيرها. وهكذا قد تستمر العملية إلى ما لا نهاية. كذلك في البرهنة، فإننا نذهب بالتراجع دون توقف، لكن لا بد من التوقف لقيام علم أو معرفة. فاصطلح العلماء على ما سموه بالنسق الاستنباطي لوضع حد لهذا التراجع، فكان نسقاً اصطلاحياً صرفاً.
2 ـ إن هذه المصطلحات الأولية المتواضعة ليست نهائية وضرورية، أي يمكن وضع غيرها أو حذف بعضها أو إضافة أخرى، ويبقى النسق الاستنباطي قائماً. يقول انزيكة الايطالي في تشبيه له:"إن النسق الاستنباطي أشبه شيء بعمل مؤسسي نظام جمهوري من جهة اختيار أو انتخاب الرؤساء في حالتين (في المنطق اختيار الحدود والقضايا الأولية) يتوقف، على الأقل نظرياً، على الكفاءة التي يعترف بها لهم لكي يزاولوا مؤقتاً وظائف معينة في مصلحة الجمهور (الجمهور في المنطق الحدود المشتقة والنظريات المبرهنة)". أي أن هذه الانساق هي انساق متواضعة مفترضة صحتها.
3 ـ أنها استنسابية، أي يستنسبها العالم وقد يستنسب غيرها. فراسل في كتابه مباديء الرياضيات اعتبر أن المنطق يمكن أن يتخذ التضمن ( < ) كحد أول، يشتق منه بالتعريف بقية الحدود. كما اتخذ عشر مسلمات كقضايا ابتدائية يشتق منها سائر قضايا المنطق بالبرهان. ثم عاد في كتاب لاحق بالاشتراك مع هوايت هد وعدل عن فكرته الأولى واعتبر النفي ( - ) والفصل ( 7 ) كحدين أوليين، كما قيلا خمس مسلمات فقط. كما أن شيفر الأمريكي اتخذ حداً أولياً آخر سماه التنافر ( / ) واعتمد مسلمتين فقط. وديفد هلبرت الألماني، أستاذ الرياضيات في جامعة برلين، تجاوز حدود المنطق والرياضيات وقبل مسلمات وحدوداً أخرى ليس فيها أي معنى رياضي أو منطقي، وهي عبارة عن رموز توضع وضعاً لاستنباط كل من قضايا الرياضيات والمنطق وقيدها بشروط كالاستقلال، وعدم التناقض، والإشباع.
والسؤال الذي يقتضي طرحه الآن: ما مدى صحة هذه الاتساق التي تبني على أسس متواضعة ومسلمات غير مبرهنة؟ وما قيمة ما نصل إليه عن طريقها من حقائق؟ وما طبيعة تلط الحقائق؟ وإلى أي مدى علينا أن نثق بنتائجها؟
لنأخذ نسقاً استنباطياً متعارفاً، لا زال يعيش كحقيقة علمية منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى يومنا هذا، وهو هندسة اقليدس. ولنتبين مدى اليقين في نتائجه ونظرياته المبرهنة بالطريقة الاستنباطية المنطقية. هذه الهندسة هي أكبر عمل تطبيقي لمنطق أرسطو. إذ جعلت من نظرياتها حلقات متواصلة بحيث تستنبط كل نظرية من سابقاتها بطريقة برهانية، وتحمل البرهان المنطقي لدعم لاحقاتها، في تسلسل فكري متواصل في التقدم حتى يجعل من جميع قضايا الهندسة الاقليدية وحدة مترابطة الحلقات، إذا افتقدت إحداها اختل نظامها الكلي. إذن هو علم يقوم على البرهان.
والبرهان لا يستمر بطريقة تراجعية إلى ما لا نهاية، بل لا بد من أن يستند إلى ثوابت أولية أو إلى مبادئ هي كما يلي:
1 ـ التعريفات أو الحدود الأولية، مثل: النقطة ما ليس له بعد، الخط طول لا عرض له، المستقيم هو الخط المشابه لنفسه.
2 ـ المسلمات أو المصادرات Postulats مثل: يمكن مد خط بين نقطتين. كل الزوايا القائمة متساوية. يمكن مد مستقيم إلى ما لا نهاية.
3 ـ الأصول الموضوعية. أو العلوم المتعارفة Axiomes، وهي قضايا لا برهان عليها، بل تؤخذ بالبداهة مثل: الكل أكبر من الجزء، شيئان مساويان لشيء ثالث متساويان فيما بينهما.
استناداً إلى هذه المبادئ أو المرتكزات الأولية التي اعتبرها أرسطو مبادئ خاصة، مقابل المبادئ العامة التي تنطبق على كل علم مثل مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع، برهن اقليدس جميع نظرياته Theoremes وملحقاتها Corollaiaires وجمع في كتابه الأصول، ضمن نسق مترابط الحلقات ترابطاً منطقياً صرفاً، كل النظريات الهندسية المبعثرة التي جاءته من طاليس وفيتاغورس وتلامذتهما، حتى عصره. وأضاف ‘ليها نظريات جديدة. ولا زالت هندسة اقليدس لجميع طلاب العالم حتى يومنا محتفظة بعينيه الطابع الاقليدي نفسه.فهل هذه الهندسة التي لا زالت حية منذ ثلاثة وعشرين قرناً وصلت إلى منتهى اليقين الفكري الذي لا يمكن نقضه؟ وبتعبير آخر هل بلغت تلك الندسة مستوى للكمال المطلق؟
المناطقة المحدثون يرفضون ذلك رفضاً كلياً، فهم يعتبرونها مجرد نسق استنباطي فرضي فيما بينها لينتج عنها مجموعة من النظريات غير المتناقضة والمبرهنة استناداً إلى مقدمات فرضية، فمعيار الحقيقة فيها هذا الانسجام التسلسلي أو المنطقي فيما بينها. وقد اطلقت عليها، استناداً إلى هذا المفهوم، عدة تسميات: نسق فرضي استنباطيSysteme Hypotheique deductif كما عند بيانو والمدرسة الايطالية، Postulational Systeme في أمريكا، و Axiomatique عند هلبرت ومدرسته في ألمانيا. ومرد هذه التسميات يرجع إلى إنكارهم صحة هذه الهندسة كعلم كلي وضروري، لكونها نتجت عن مقدمات فرضية، لم يقم البرهان على صحتها، ولا يستطيع العقل قبولها بالسهولة التي تصورها اقليدس، مثل المسلمة الخامسة "المتوازيان لا يلتقان أبداً". فقد حاول الرياضيون البرهنة عليها لتقترب من متناول عقولهم لخلوها من البداهة العقلية ولا زاحة الشك عن الهندسة الاقليدية. فنصير الدين الطوسي حاول في القرن الثاني عشر الميلادي، وكذلك الأب ساكيري الايطالي في القرن الثامن عشر، وحاول غيرهم الكثيرون، أمثال دالمبير ولوجرانج في فرنسا لكن هذه الأبحاث الكتكررة أدت إلى ظهور هندسات لا اقليدية وكان أول من نشر أبحاثاً في تلك الهندسة الجديدة الرياضي الروسي لوباتشقسكي في القرن التاسع عشر. ثم تلاه بعد حوالي ربع قرن ريما بنشر اكتشاف هندسة أخرى. فالأول قبل عدداً لا متناهياً من المستقيمات المتوازنة التي تمر كلها بنقطة واحدة خارج مستقيم ما. والثاني قبل أن المستقيم لا يمتد إلى ما لا نهاية. وأن كل مستقيمين على سطح واحد، لا بد يلتقيان في نقطتين، وأنكر وجود المستقيمات المتوازنة الاقليدية.وقد وضع لكل من هذه الهندسات نسق خاص بها مكون من حدود ومسلمات وأصول موضوعة بحيث تؤدي إلى هندسة متكاملة، غير متناقضة فيما بينها على طريقة اقليدس تلك. وقد اعتبر المتحمسون لهندسة ريمان أن هذه الهندسة هي الهندسة الواقعية، واتهموا هندسة اقليدس بالوهمية، إذ أن الأخير اعتبرت السطح مسطحاً، لا تجد فيه مكاناً لأي انحناء. بينما السطح الريماني الكروي هو سطح واقعي. إذ الأرض والأفلاك كلها كروية الشكل ذات سطوح كروية.
فغدت المستقيمات الاقليدية الوهمية عبارة عن منحنيات أو أقواس ودوائر مقفلة في الهندسة الريمانية. وأقرب بعد نقطتين، في العالم الواقع، هو القوس الريماني لا المستقيم الاقليدي الوهمي. كل مستقيم منته لأنه دائري ولا يمكن مده إلى ما لا نهاية، كما عند اقليدس.كل المستقيمات تتقاطع في نقطتين، وبالتالي لا توجد مستقيمات متوازن. مجموع زوايا المثلث تزيد على قائمتين زيادة طردية مع كبر أضلع المثلث. السطح الريماني له ثلاثة أبعاد بالنسبة للسطح الاقليدي ذي البعدين. المكان الريماني له أربعة خلاف المكان الاقليدي ذي الأبعاد الثلاثة نجد أن هذه الهندسات الثلاث تقابل كل واحدة منها فرضاً من الفروض التالية التي وضعها نصير الدين الطوسي والأب ساكيري كما يلي: في الشكل أ ب ج د الذي يتساوى فيه أ د، ب ج ويسقطان عامودياً على أ ب إما ج، د زاويتان قائمتان (اقليدس)، وإما حادتان (لوباتشفسكي)، وإما منفرجتان (ريمان).
فتكون العلاقة بين الهندسات كما يلي :
الهندسة السطح الانحناء مجموع زوايا المثلث
1 ـ اقليدس مسطح صفر قائمتان
2 ـ لوباتشفسكي مسطح يشبه الكرة أقل من صفر أقل من قائمتين
3 ـ ريمان كروي أكبر من صفر أكبر من قائمتين
نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية:
إن النسق الاستنباطي الذي تقوم عليه هندسة ما، هو نسق اصطلاحي تنتج عنه هندسة متكاملة، بحيث إذا غيرت أية مسلمة من مسلماته نتجت لديك هندسة أخرى تختلف عن الأولى. فنشوء هاتين الهندستين نتج عن مخالفة المسلمة الخامسة عند اقليدس (المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا). حيث خالفها لوباتفسكي باعتباره أنه من الممكن إقامة عدد لا متناهٍ من الخطوط المتوازنة من نقطة خارج مستقيم، بينما يعتبر اقليدس أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن إقامة إلا متوازٍ واحد فقط في حين عارضها ريمان إذ اعتبر أن كل متوازيين لا بد أن يلتقيا. إذ هما مستقيمان على سطح كروي واحد.
هذه الحركة النقدية في الهندسة أدت إلى ما سمي على يد الألماني مورتز باش Pasch بالاكسيوماتيك أو النسق الاستنباطي الفرضي، أي إلى مدرسة جديدة وضعت أصول لعلم الهندسة وجودتها فيه من الألفاظ والأشكال، وحصرتها في علاقات بين القضايا يعبر عنها برموز، واستقلت كل هندسة بمسلماتها الخاصة بها والكافية لاستنباط قضاياها. وأصبح هناك عدد لا متناه من الهندسات بقدر ما هناك عدد لا متناه من المسلمات الافتراضية. وحاولت مدرسة الاكسيوماتيك وضع قانون عام لهذه المسلمات.
فحصرتها في ثلاث :
1 ـ الاستقلال، أي استقلال كل مسلمة عن الأخرى.
2 ـ عدم التناقض فيما بينها.
3 ـ الاشباع، أي حصر عدد المسلمات بما يكفي لاستنباط نظريات تلك الهندسة بحيث يمتنع عليها الزيادة أو النقصان، وإلا أدى ذلك إلى نشوء هندسة جديدة مغايرة.
وتخلت الهندسة عن حدوس المكان والرسوم والأشكال وأغرقت في رمزيتها حتى تجردت من كل واقع وانحصرت في علاقات منطقية صورية صرفية مثل علاقة الانتماء Appartenance والاحتواء Inclusion والطائفة Classe فالنقطة والخط والاسطح أشكال لم يعد لها معنى في الاكسيوماتيك، وحلت محلها العلاقات القائمة بينها. فالنقطتان تنتميان إلى طائفة سطح وإلى طائفة مستقيم، وعناصر المستقيم محتواه في عناصر السطح.
أما الحدود فتختار اختياراً تعسفياً أي وفق أرادة الباحث أو واضع الهندسة، وليس وفق شروط حدسية مكانية. فيمكن لهندسة واحد أن تضع عدة أنساق من الحدود وفق عدد الباحثين. فلهندسة اقليدس مثلاً اختار هلبرت النقطة والمستقيم والسطح حدوداً أولية. واختار قابل النقطة والمتجه الحر Vecteur libre وبوان كاريه النقطة والنقلة Deplacement.وهكذا نجد أن الهندسة قد رجعت إلى المنطق الصوري من حيث عدم اهتمامها بمطابقة قضاياها للواقع وحصر اهتمامها فقط بأن تكون غير متناقضة فيما بينها، منسجمة ضمن نسقها الموضوع وضعاً دون أن يعنيها إذا كانت قابلة التطبيق على الظواهر الخارجية أو لا. وغدت الهندسة الاقليدية واحدة من عدد لا ينتهي من الهندسات الممكنة، لكل منها مسلماتها الخاصة بها.
فأين معيار اليقين إذاً في هذا النوع من المنطق الصوري الذي اتخذ طابع العملية؟
والجواب أنه لا يوجد معيار ثابت موحد لقياس صحة جميع هذه الأنساق، بل لكل منها معياره الخاص به. اللهم إلا كونها تلتقي حول قاسم مشترك واحد وهو انسجام قضاياها فيما بينها، ليس انسجاماً واقعياً وإنما انسجاماً صورياً، أي برجوعها إلى المنطق الصوري وتقيدها بطريقته. والاستنتاج من أية مقدمات نتائج تنسجم مع تلك المقدمات ولا تكون متناقضة معها. وهذا ما لا يركن إليه في اتخاذه طريقة صالحة للفكر (كما بينا في نقدنا للمنطق الصوري).
فمعيار اليقين عندنا هو مطابقة الفكر للواقع المتشخص وليس مطابقة لنفسه أو لافتراضاته العشوائية. كما أن اليقين هنا، في الانساق المنطقية، يقين جزئي، أي يقين هذا النسق أو ذاك بينما اليقين الذي نبغي هو يقين كلي أو منهج عام يكون ميزاناً نزين فيه كل أعمالنا الفكرية ويبين صدقها من كذبها. بحيث نرجع إليه في كافة أبحاثنا الفكرية.رب قائل يقول: لكن قانون عدم التناقض الذي أجمع الباحثون على تطبيقه في جميع هذه الأنساق هو قانون عام. ألا يكفي لاعطاء هذا المنطق صفة العمومية؟
وجوابنا هو أن قانون عدم التناقض، هو الذي أرجع إليه أرسطو يقين المنطق، هو قانون عام وصحيح من الوجهة المبدئية (لا يمكن أن تكون أ هي ب ولا ب في وقت واحد) لكن ما هو معيار كون أ هي ب أولاً أي نحكم بأنه لا يمكن أن تكون لا ب، في هذا القانون فرضية شرطية، أي إذا كانت أ هي ب لا يمكن أن تكون لا ب. فالحكم العقلي هنا إذن، هو حكم شرطي في كون أ هي ب وليس حكماً قطعياً.في مثل قولنا: إذا كانت الخراف تطير فلا يمكن أن تكون في الوقت ذاته لا تطير ( الخراف هنا أ والطيران هو ب). هذا الكلام هو تطبيق صحيح لمبدأ عدم التناقض من حيث المنطق. أي لا يمكن أن يكون للشيء صفة ونقيضها في آن معاً.لكن ما مدى صحة انطباق هذه الصفة على هذا الشيء؟ هذا ما لم يهتم به المنطق. إذ عندما نقول الخراف تطير فقد أصدرنا حكماً عقلياً بإعطائنا صفة الطيران للخراف. لكن هذا الحكم غير صحيح من جهة نظرنا لأنه لا ينطبق على واقع. فواقع الخراف المتشخص لا يثبت بانطباع الحس أن لها أجنحة وتطير. من هنا فإن القانون في شكله صحيح، لكن قبل صحته، أي انسجام قضاياه مع بعضها، يجب أن تكون قضاياه صحيحة في ذاتها، أي قيست بمعيار الحقيقة أولاً ـ وهو عندنا الواقع ـ لكي يحق لنا أن نجزم بصحة هذا القانون.
هذا هو القانون (قانون عدم التناقض) الذي يجمع بين مختلف هذه النظريات على تعددها ضمن قاسم مشترك، بحيث تخلص من مقدماتها الافتراضية إلى نتائجها التي تنسجم وفق هذا القانون مع تلك المقدمات. فلو نقضنا أياً من هذه المقدمات لنسفنا كل ما جاء من نتائج، بل لتأدي عندنا نتائج منافية ومغايرة للأولى. كما تبين من نقض مسلمة المتوازيين اللذين لا لا يلتقيان أبداً عند اقليدس.وعندما أن نقص هذه المسلمة هو أنها تضمر اللامتناهي، إذ المستقيمان اللذان لا يلتقيان أبداً ممتدان امتداداً لا متناهياً فوق سطح منبسط وممتد امتداداً لا متناهياً. وهذا السطح هو سطح تخيلي وليس سطحاً واقعياً متشخصاً على الطبيعة، أو على الأقل منشأ إنشاء Construction إذ في مقياسنا الواقعي لا وجود اللامتناهي إلا في المخيلة. ومن هنا لا يمكننا اعتماد قضايا تخيلية للوصول إلى يقين الفكري. فالسطح اللامتناهي غير موجود في عالم الحس الواقعي. فسطح الأرض متناه وسطوح الكواكب كلها متناهية، ولا وجود لسطح منبسط يمتد عبر الوجود امتداداً لا متناهياً. إذاً فضعف هذه المسلمة متأت ليس عن عدم إمكان قيام برهان عليها بقدر ما هو ناتج عن عدم مطابقتها للواقع وتسليم العقل بها بداهة.
نلاحظ هنا أن عيب بعض المسلمات مرده إلى خطأ في تعريف بعض الحدود، كما بينا في المستقيم والسطح. كذلك أن تعريف النقطة بأنها ما ليس له بعد تعريف خاطئ. فما لا بعد له يكون عدماً، والعدم نقيض الوجود، أو هو وجود افتراضي للاوجود. إذن فالنقطة بهذا التعريف لا وجود لها ولا يمكن أن يمر بها أي خط، والتعريف الأصح لها هو اعتبارها تقاطع خطين. نخلص مما يلي إلى أن صحة الهندسة لا تقوم على أن نتائجها تنسجم انسجاماً منطقياً مع مقدماتها بل كونها تنطبق على الواقع بحدودها ومسلماتها ونتائجها. فالنقاط قائمة، في الطبيعة، في تقاطع الخطوط، والخطوط متمثلة بالتقاء الأسطح، والأسطح كائنة في سطوح الأبنية وحيطانها وفي سطوح المناضد والأشياء الهندسية المتناسقة. كما أن المتوازيين لا يلتقيان على سطح محدود يقع ضمن تجربتنا الحسية.ورغم ما عزي إلى هندسة اقليدس من عيوب مثل: النقض في المقدمات الخاصة بالنقلة كما يرى بوان كاريه، أو النقص في المقدمات الخاصة بالترتيب أو النظام كما يرى مورتز باش. واستعمالها ضمناً عدة مسلمات مضمرة لم تذكر صراحة في المقدمات كما بين برتراند راسل. فلا زالت رغم ذلك هي الهندسة المسيطر في مدارسنا وجامعاتنا نظراً لنتائجها المطبقة في الواقع العملي المجرب، وعدم بقائها في صورة الاستنباط فقط. واستعمالها في هندسة البناء والانشاءات القياسية والاشكال المنتظمة. فالهرم والمنشور والمكعب والمستطيل…الخ ومثلث فيتاغورس القائم الزاوية الذي مربع وتره يساوي مجموع مربعي ضلعيه الآخرين، هي أشكال تنشأ انشاء في عالم التجربة الحسية.إذن من الأجدى لنا أن لا نحمل هذا الاستنباط وظيفة كعصمة فكرنا من الخطأ أو نتخذ منه معايير نقيس عليها صحة أفكارنا، بل أن نجعل منه مجرد نظرية علمية برهانية، قائمة في ذاتها، تعتمد بعض المقاييس الخاصة بها، تبرهن قضاياها في نسق علمي موحد ضمن هذه المقاييس.
يقين المعرفة :
ما دمنا قد حصرنا الشق الثاني من الاستقراء، أي الطريقة العلمية، في المواد الطبيعية المحسوسة الخاضعة للتجربة والاختبار واستنتجنا أن المعارف الناتجة عنها هي معارف احتمالية وليست معارف قطعية نهائية يركن إلى يقينها ركوناً كلياً، بل تبقى مسلماً بصحتها حتى تثبت التجربة خطأها.وما دمنا قد اعتبرنا المنطق أو الاستدلال الاستنباطي طريقة ثانوية في الفكر لا يشكل السبيل المثلى والنهائية لتفكيرنا، إذ هو عملية انسجام الفكر مع نفسه وليس مع الواقع الذي هو أساس كل معرفة صحيحة.فهل هناك طريقة أخرى تنتهج سبيلاً للوصول إلى الحقيقة؟ وهل هناك حقائق يقينية يتوصل إليها العقل الإنساني؟ أم أن الحقيقة شيء نسبي يختلف بين طريقة وأخرى وعقل وآخر؟نجيب عن هذه الأسئلة بما يلي:
إننا نقسم المعرفة إلى قسمين :
1 ـ معرفة يقينية أو قطعية.
2 ـ معرفة احتمالية أو ظنية.
أما المعرفة اليقينية فهي تنحصر في معرفة وجود الشيء.
وأما المعرفة الاحتمالية فهي ما يبحث في ماهية الأشياء وكننها، وتفسير ظواهر الوجود وعلاقاتها وطبائعها.فالحكم على وجود الشيء هو حكم قطعي، كحكمنا أن الشمس مشرقة هذا اليوم. فهذا حكم قطعي لا جدل فيه ولا يرقى الشك إلى إصداره، لأنعقد استند إلى واقع وهو مشاهدة الشمس الساطعة بأنوارها والمضيئة رحاب هذا الكون. لا يستطيع إنكاره إلا من فقد الأبصار بنورها والإحساس بدفئها.أما إذا حاولنا معرفة كنه هذه الكرة الملتهبة ونوع الأشعة التي تبعثها إلى كرتنا، ونوع العناصر المركبة منها، وعلاقاتها بالشموس والكواكب الأخرى وكيفية دورانها حول نفسها غيرها، وارتباط المجموعة الشمسية بها، إلى آخر أنواع المعرفة الطبيعية والفلكية، فإن معرفتنا تغدو معرفة ظنية ليس فيها أي حكم قطعي، بل هي حقائق مسلم بصحتها حتى تثبت التجربة خطأها.ومشاهدتنا خطي جمل منطبعة على رمال الصحراء تجعلنا نصدر حكماً عقلياً قطعياً على أن جملاً مر من هناك، مستدلين من آثاره على وجوده. لكن عندما نحاول معرفة حجم الحمل أو لونه أو جنسه، هل هو ذكر أم أنثى، أو حجم سنامه أو طول وبره، فإن أحكامنا هنا تبقى ظنيه افتراضية.ومن تبصرنا بهذا الكون المنظم والمدبر تدبيراً حكيماً بحيث لا يفلت عن مداره كوكب قيد شعره، ولا يشذ عن علاقاته من العناصر المحكومة بحتمية نهائية، نحكم حكماً قطعياً بأن له مدبراً واعياً يسير أموراً الطبيعية العمياء. أما البحث في ماهية هذا المدبر، وتحديد صفاته، والوقوف على حقيقة شأنه، فهذا ضمن ظن العقل وتوقعه، ولا يرقى إلى الحقائق الثابتة والمفاهيم القطعية. والعلم كله، أي المعارف الآتية عن طريق الاستقراء والتجربة كلها تقع ضمن هذا النوع من المعرفة الاحتمالية كما بينا.
من أين جاء هذا اليقين لفكرنا في الحكم على وجود الشيء؟
جاءه من مطابقة الفكر للواقع، إذ الفكر هو حكم العقل على واقع والعملية العقلية، كما بينا، تستند إلى واقع. فلا معرفة بدون واقع، بل هي معرفة تنحصر به وتنبثق عنه. والحس والدماغ والمعلومات السابقة، عناصر العملية العقلية، كلها تنطلق من الواقع الذي هو الناحية الإيجابية والموضوعية في المعرفة. وما عدا من عناصرها منفعل بتأثير الواقع أي الوجود. ويغدو معيار الحقيقة ويقينها مطابقة أفكارنا للواقع.وديكارت أراد أن يستند إلى حقيقة أولية يبني عليها صحة أفكاره، فاستند إلى حقيقة وجود ذاته في الكوجيتو الشهير "أنا أفكر إذاً أنا موجود". ومن حقيقة وجود ذاته الذي أصدر عقله حكماً قطعياً ارتاح إلى صحته، بنى جميع أفكاره اللاحقة. إذن فديكارت لم يجد حقيقة يقينية يبدد بها شكه إلا حقيقة الوجود.
علم التاريخ هو علم بوقائع. ولو أن هذه الوقائع غير ماثلة حاضراً. سواء أنقلت وقائعه عن الكتب أو عن الآثار الباقية من أنقاض العمران، أو ما خلفته الحروب من آثار على الدول والشعوب.فدراسة حضارة المصريين القدماء من الأهرامات ومن النواويس والتماثيل والآثار المختلفة هو حقيقة ذات واقع ماثل في هذه الآثار التاريخية التي تحدثنا عن المستوى الحضاري الذي وصلت إليه تلك الشعوب.وقل مثل ذلك عن دراسة الحضارة اليونانية أو الفينيقية أو الرومانية أو العربية مما خلفته هذه الشعوب من آثار باقية على الزمن تنبئ بواقع وجودها. وكذلك فإن حروباً كان لها تأثير في تغيير حقب الزمان، وتغيير مجرى التاريخ من مثل:
معركة اليرموك التي كانت الحدث الحاسم بين انتصار العرب وانهزام الروم .أو موقعة عين جالوت التي انهزم فيها المغول واستمر تراجع جيوشهم وانحسارها عن المشرق العربي، وفتوحات الاسكندر المقدوني والحربين العالميتين الأولى والثانية، هي حقائق واقعة لا جدل بصحة وجودها.كذلك في الأحكام الشرعية أو القانونية. فالحكم على القائل بالقتل أو السارق بقطع اليد، أو الحكم على الأب بتكفل أولاده أو ارجاع المال المغتصب إلى مالكه. هي أحكام على وقائع موجودة يثبتهاحس الإنسان ويؤمن بها عقله. ولا يصح إصدار أحكام لا وجود واقعياً لها.وقل مثل ذلك في علم الجغرافيا والمساحة والفلك والطبيعيات والطب وغيرها من المعارف الإنسانية ذات الواقع البين.والمعرفة القطعية هي التي ينقلها الحس مباشرة إلى الدماغ ولا تعتمد على عناصر أخرى لإثباتها، لأن الحس لا يخطئ مطلقاً في نقل وجود الواقع.لكنه في تفسير ظواهر هذا الواقع يعتمد على الظن والتخمين والاجتهاد. لذا تبقى حقائقه في حالة تنام مستمر وتغير دائم. فالقوانين الوضعية تبقى نقاش وتصحيح لأن حقائقها ليست ثابتة بل تتغير مع تغير الجماعات والعصور.
فقانون حمورابي الذي كان يعتبر أفضل الشرائع في زمنه، لم يعد في عصر يوستينيان، الذي وضع شرائع تلائم عصر الرومان، هو القانون الأمثل. وقانون يوستينيان هذا لم يعد في هذا العصر سوى مستند تاريخي لا تصح أحكامه على مجتمعات زماننا. والاختلاف بين المجتهدين في الإسلام، الذي جاء بالخطوط العريضة لبعض القضايا الشرعية وترك لعقول المجتهدين حرية الاشتراع، أكبر دليل على ظنية تلك الأحكام الاجتهادية التي لا يصح تعميمها وتطبيقها على معطيات عصرنا وسائر العصور، لأنها أحكام غير قطعية بل غلب ظن المجتهدين أنها صحيحة فحكموا بها. وهكذا يبقى الاجتهاد فيها ممكناً ما دام الإنسان.هنا لا بد من الرجوع إلى مفهوم الدياليكتيك عند الماركسيين والتنويه بصحة هذه النظرية التي تجعل المعرفة في حالة تنام مستمر بتفاعل الفكر مع الواقع. فالواقع الذي هو المحك الحقيقي للمعرفة يصحح مسارها ويبقى السند الدائم لها يرفدها أبداً بالوقائع التي تنير طريق الفكر عبر تفتيشه عن الحقيقة في متاهات الوجود.فالنظريات السياسية والاجتماعية والتربوية والآراء التاريخية. وحتى القوانين والنظريات العلمية وكذلك الايدلوجيات تبقى في حالة تنام وتغير وتصحيح ولا ثبات لحقائقها مطلقاً.
إذن فالتفكير السليم، لا بد وأن يكون تفكيراً في واقع أو في آثار واقع، وإلا كان تفكيراً تخلياً يبعد بنا عن الحقيقة.
إذ في عملية التفكير لا بد من واقع محسوس ينقله الحس إلة الدماغ لتتم العملية العقلية. لأن عدم وجود الاحساس بالواقع يعني وجود عدم وجود الواقع وعدم وجود التفكير الصحيح، وشرود الفكر في متاهات التخيل. وما الفلسفة الماورائية في أصل الوجود ورده إلى الهيولي والصور الجوهرية أو انبثاقه عن العقل الأول، أو القول بأن الأرض محمولة على قرن ثور إلا كالقول بالغول والعنقاء، ضرب من التفكير الذي تجاهل الواقع واستند في أحكامه العقلية على التخيل والافتراض. فجاءت أحكامه بعيدة كل البعد عن جادة الصواب.
فنحن أمام ثنائية في المعرفة: المعرفة (الاستاتيكية) أو الثابتة والمعرفة (الديناميكية) أو المتحركة.
فالمعرفة بالوجود هي معرفة استاتيكية لا تتغير. وأحكام العقل بها أحكام يقينية لا لبس فيها. أما المعرفة المتحركة فهي المعرفة بكنه الأشياء وكيفياتها وحقائقها. وهذه تبقى في عملية تنام مستمر وتغير دائم. وتبقى حقائقها مسلم بصحتها حتى يتبين خطأها. ولا يستطعن أحد التسليم بصحتها تسليماً قطعياً أبداً.
اليقين الرياضي :
والمعرفة الرياضية هي معرفة قطعية (نستبعد منها الهندسة التي سبق وبينا موقفنا من حقائقها) لأنها معرفة بوجود. فهي معرفة تستمد يقينها من كونها تجريد لوقائع.لكن هذا التجريد لا يحمل في كهنه أية كيفيات أو صفات عن الوقائع التي جرى تجريد الأعداد منها. ففي الأرقام 1 ، 2 ، 3 … من أين جئنا بهذه الأعداد المجردة؟ لا شك أنه قد جرى تجريدها من محسوسات معروفة لدى حس الإنسان.إذ إن مرحلة التجريد الذهني هذه مسبوقة زمنياً بمرحلة حسية. فقبل أن يبدأ الإنسان بالمعرفة المجردة مثل الأعداد، لا بد وأنه قد مر قبلها بمرحلة الإحساس بأشياء لها تجسد مادي محسوس.إن أول معرفة بالعدد كانت معرفة بالمعدود. فبداية المعرفة كانت بأشياء مثل: تفاحة، تفاحتان، ثلاث تفاحات…هذه الحقيقة نلمسها في تعليم الأطفال فلا يمكن تعليمهم دفعة واحدة حساب الأعداد المجردة. إذ لا بد من مرورهم بمرحلة ربط التجريد العددي بمعدوداته الحسية. وأول ما نعلمهم: قلم + قلم= قلمان وهكذا تستمر التمارين على المساطر والكرات والمقاعد والأولاد، والعد على الأصابع. حتى نصل بعد فترة إلى مرحلة تالية يتمكن فيها عقل الطفل من فهم الأعداد مجردة عن معدوداتها.
هذه المرحلة التي يمر فيها الأطفال قد مرت فيها الإنسانية عبر تاريخها حيث انتقلت من بداية الأدراج الحسي إلى تجريدية الإدراك العقلي.
هذا التجريد العددي ماذا يعني ؟
إنه يعني تجريد لوجود الأشياء وليس لماهياتها. فقولنا في المنزل عشرة أشخاص، إن رقم عشرة يعني وجود الأشخاص ولا يعني شيئاً آخر يزيد على ذلك، كنوع الأشخاص أو أعمارهم أو جنسياتهم أو ألوانهم أو جنسهم أو أطوالهم أو أحجامهم. وقولنا في الشارع خمس سيارات، نعني فقط وجود خمس منها دون أن نعني ألوانها أو أشكالها أو أحجامها أو …في العمليات الحسابية 5 + 5 = 10. والخمسة نصف العشرة. والاثنان أصغر من ثلاثة. يقين لا يرقى إليه شك أو احتمال. على عكس قضايا العلوم الطبيعية مثل:المغناطيس يجذب الحديد. والذهب يلزمه درجة حرارة لذوبانه أكثر مما يلزم النحاس.والماء يجمد بدرجة حرارة الصفر.فهذه تبحث في علاقاته بين ظواهر ولا تنحصر في بحث الوجود فقط كالأعداد.لذلك تبقى حقائقها غير يقينية ويمكن الشك بها.
يمكن أن يأتي أحد الناس ويقول لنا: تبين لي من الاختبار أن درجة غليان الماء هي مائة درجة وثلاثة أعشار بدل المائة، فيجعلنا نشك المصطلح العلمي، ولو مؤقتاً، ونحاول التثبت من ذلك بإجراء تجاربنا لكن أحداً لا يستطيع أن يقول لنا تبين لي أن 5 + 5 = 10 وبعض الكسور، ويثير شكلنا، بل تبقى عقولنا رافضة لهذا القول مؤمنة بصحة أن 5 + 5 = 10 فقط. ولا يرقى الشك إليها مطلقاً.ولو قال رائد فضاء: إن الماء لا يغلي على سطح القمر بنفس درجة غليانه على سطح الأرض في نفس درجة الضغط الجوي، فيمكننا أن نتصور ذلك، ولا يمكننا أن نرفض أن الماء يمكن أن يغلي على سطح القمر بنفس الدرجة التي يغلي بها على سطح الأرض.بينما لو قال لنا: أن 5 + 5 لا تساوي عشرة على سطح القمر لما استطعنا تصور ذلك.
وهكذا نجد أن اليقين الرياضي مردة إلى كونه معرفة بوجود وبعلاقات
وجود مثل: +، -، ×، =، كلها علاقات بين مجردات لوجود. بينما مرد الشك في العلم إلى كونه معرفة بماهيات. والمعرفة بالوجود معرفة قطعية يقينية بينما المعرفة بالصفات والماهيات معرفة ظنية احتمالية. من هنا يسعى العلماء إلى تفسير العلاقات العملية والقوانين بالأرقام لإعطائها صفة اليقين العددي أو الكمي، وتخليصها من احتمالية الكيف.ولم يكتفوا بذلك بل أعطوا نظرية الاحتمال نفسها الطابع الحسابي وحددت قضاياه بالأعداد والكسور، تقريباً له، ما أمكن ، من الحقائق اليقينية.
مقابلة هذه النظرية بالنظريات الفكرية الأخرى:
سبق وأوضحنا في بحثنا السابق (الفلاسفة والفكر الإسلامي) موقعنا من كافة المدارس الفكرية الأخرى. والآن لا بد من مقابلة هذه النظرية من وجهة نظر اليقين في حقائق الفكر مع مذهبين نقيضين لم يستطيع مفكر الاستغناء عن الانتماء عن الانتماء إلى أحدهما كلياً أو جزئياً بطريقة أو بأخرى. وهما المذهب العقلي والمذهب التجريبي.
فالمذهب الأول: أسند يقين المعرفة إلى معارف قبلية في العقل، هي بمثابة ركائز له يستمد من وضوحها يقينه.وتعتبر تلك المعارف القبلية المصباح الذي ينير للإنسان طريقة في عالم التجربة والوقائع، ويفسر على ضوئها كافة ظواهر الوجود.والمذهب الثاني: انطلق في بناء المعرفة من التجربة واعتبرها المصدر الوحيد الذي يمد عقولنا بكافة أنواع المعارف.فليس ثمة معارف عقلية قبلية في ذهن الإنسان مستقلة عن التجربة والخبرة، بما في ذلك القضايا العقلية الصرفة كالرياضيات. فالإنسان يستمد أفكاره فقط من تجاربه دون أن يستند إلى أية أفكار قبلية.هذه المنطلقات في كلا المذهبين انعكست على مفهوم المعرفة وعلى درجة اليقين فيها.
فالعقليون قسموا المعرفة إلى قسمين:
ما هو مستمد من معارف قبلية سابقة على التجربة، مثل قضايا الرياضيات والمنطق. وما هو مستمد من التجربة ذاتها، مثل قضايا العلوم الطبيعية. لذلك فإن اليقين في القسم الأول يختلف عنه في القسم الثاني.فقضايا الرياضيات عندهم قضايا يقينية لا يرقى إليها الشك أو الاحتمال، لاستنادها إلى تلك المبادئ العقلية القبلية مباشرة. أما قضايا العلوم فهي قضايا أقل درجة من حيث يقينها نظراً لخضوعها للتجربة الحسية.
أما التجريبيون :
فقد ساروا بين قضايا المنطق والرياضيات وقضايا العلوم وأعطوها نفس درجة اليقين، وهي درجة احتمالية. ذلك لأنهم ارجعوا المنطق والرياضيات إلى التجربة ولم يعترفوا لها بكونها علوماً عقلية صرفة.وبذلك يكونون قد نفوا اليقين والضرورة عن كافة المعارف الإنسانية وأوقعوا الفكر البشري في مشكلة الشك المطلق.ولا بد من معارف يقينية يرتكز إليها الفكر البشري في مشكلة الشك المطلق.ولا بد من معارف يقينية يرتكز إليها الفكر وإلا تكون عملية المعرفة مجرد ظن لا يؤدي إلى ثقة في مدركاتنا.هذه الثغرة في الفكر التجريبي بادر المنطق الوضعي إلى سدها، دون أن ينكر المذهب ذاته، ودون أن يسلم للمذهب العقلي بقبلية المعرفة ومبادئ الفكر.فراح يعالج المشكلة باعترافه بالفارق بين المنطق والرياضيات وقضايا العلوم الطبيعية باعتباره أن قضايا المنطق والرياضيات قضايا تكرارية:لا تخبر عن شيء إطلاقاً. ففي القضية 1 + 1 = 2، لم تضف إلى علمنا شيئاً جديداً، بل هي تكرر عناصر الموضوع.فالعدد (2) يعني (1 + 1)، والعددان ( 1 + 1 ) يساويان ( 2 ).
مثل قولنا: 2=2 أو قلنا: الباب هو حل ما ندخل منه إلى المنزل. هذا القول لم يعط أية معرفة جديدة ولم يخبر عن شيء. فالوصف هنا مستبطن في الموضوع. وفي قولنا: الفرنسي.والبير فرنسي إذن يتكلم الفرنسية. هذا القياس المنطقي لم يعط معرفة جديدة لأن ما جاء في النتيجة متضمن في المقدمتين. وقضايا العلوم الطبيعية قضايا إخبارية:وهي التي تمد الإنسان بعلم جديد.مثل الرصاص أثقل من الحديد. فهذه قضية لم يتضمن محمولها في الموضوع.وأعطت وصفاً جديداً للرصاص أكثر من مجرد أنه رصاص.والقضايا التكرارية قضايا لها صفة اليقين والضرورية لخلوها من الأخبار، وعدم إعطائها معرفة. أما القضايا الأخبارية فهي قضايا احتمالية لأنها تحتمل الصدق وتحتمل الكذب.
وفي القياس المنطقي :
زيد إنسان وكل انسان يسير على رجلين إذن فزيد يسير على رجلين. هذا القياس لم يعط علماً جديداً لأن النتيجة متضمنة في المقدمتين.وهو لم يعط أكثر من تكرار للمعنى ذاته.
العقليون يردون عنصر اليقين والضرورة إلى مبادئ الفكر القبلية مثل مبدأ عدم التناقض.لكنهم لم يقدموا أي دليل على صحة المبادئ إلا كونها معرفة عقلية قبلية يسلم بها الفكر دون مناقشة.وهي غير محتاجة بطبيعتها، في رأيهم، إلى برهنة لوضوحها. كما يعترفون أن البرهنة عليها غير ممكنة.
لكن التجريبيين ايضاً لم يقيموا الدليل على صحة اليقين والضرورة في القضايا التكرارية إلا كونها خالية من الأخبار، وعدم إعطائها معارف للإنسان بموضوعاتها.ونحن قد أرجعنا اليقين في قضايا الفكر عامة إلى الوجود، أي إلى مطابقة الحكم العقلي لوجود واقعي.سواء كان حكماً على وقائع محسوسة مثل قولنا: الأمطار هذا النهار ( إذا كانت فعلاً تهطل ). هذا الحكم لا يرقى إليه الشك نظراً لمشاهدتها للأمطار والغيوم وإحساسنا بالرطوبة والتغير في الطقس.
فلو قال لنا قائل :إنني أشك بكون الأمطار تهطل في هذا النهار. فإنه لا يستطيع بقوله هذا إثارة شيء من الشك في عقولنا ولا يجعلنا نفكر في شكه. لأن وضوح الواقع للحس لا يمكن أن يرقى إليه الشك أو الاحتمال.وإذا قال قائل: ربما تكون غير موجود. وربما أكون أنا الذي أخاطبك غير موجود. فهل يثير في شيئاً من الشك بوجود ذاتي. أو بوجود الذات الأخرى التي تخاطبني وتحاول إثارة شكي؟ طبعاً لا. ولو بدرجة ضئيلة من الاحتمال.ولو كنت أنظر إلى الطبيعة وأشاهد الجبال والبحر والشجر والناس أمامي.فهل يرقى إلى نفسي الشك بأن ما أشاهده ربما يكون غير موجود؟ أو ربما تكون عيني التي تشاهد غير موجودة؟ طبعاً لا.إذن فمرد اليقين في معارفنا لا يعود إلى معارف أو قوانين قبلية في عقولنا ـ كما عند المذهب العقلي ـ إذ يمكن البرهنة على وجود هذه القوانين. ولم يستطع القائلون بها على وجودها إلا بإرجاعها إلى عملية ما ورائية من مثل قول ديكارت بأنها:"فطرية ولد الإنسان مزوداً بها كعلاقة صانع بضعه". أي بإرجاعها إلى سند غير فكري. وبذلك يكونون قد برهنوا أصل اليقين الفكري بطريقة تصديقية غير يقينية.كما أن اليقين لم يأت القضايا الفكرية مثل الرياضيات والمنطق، كما يدعى المنطق الوضعي، من كونها تكرارية لا تخبر عن شيء. وأتما يأتي اليقين لقضايا الفكر:
أولاً : من مدلول الكلمة، فكل كلمة عندنا لها مفهوم متمثل في واقع ولا مفهوم مطلقاً للكلمة التي لا تنطبق على مدلول واقعي. فكلمة كتاب تعني شيئاً موجوداً في عالم الواقع المحسوس، حيث نقلب صفحاته ونقرأ سطوره ويشغل حيزاً من المكان.ويتمثل الذهن لهذا المدلول ويفهم منه معنى الكلمة. وكلمة محبة أيضاً تعني واقعاً نعيشه ونشعر به في عواطفنا أو حسنا الباطن نحو أناس آخرين. وكلمة ثلاثة تعني تجريداً لوجود ثلاثة أشياء محسوسة وموجودة في عالم الواقع.وأن كان لها الآن في ذهننا مفهوم قائم بذاته بعيد عن كل محسوس، وأصبحت تبدو لنا وكأنها كلمة تعني ذاتها شيئاً غير ذلك. إلا أننا لم نصل إلى هذه المرحلة من استقلال هذا المفهوم التجريدي لها إلا بعد ممارسات ذهنية وعملية تجريد كثيرة قمنا بها في بداية تعودنا للمعرفة العقلية المجردة.وكلمة أرسطو تعني لنا إنساناً له وجود في تاريخ الفلسفة والفكر البشري. واسمه يمثل وجوداً سابقة لشخصه ووجوداً مستمرة لفكره وعلمه.
هذه الكلمات وأمثالها التي تمثل واقعاً موجوداً، جميعها يقينية.ولا يمكن أن تكون الكلمة في ذاتها احتمالية. فهي أما تتمثل وجوداً وتنطبق على معنى، ويكون مدلولها يقينياً .وإما لا تمثل وجوداً ولا ينطبق مدلولها على واقع.وتكون في هذه الحالة لا معنى لها مطلقاً. فالكلمة إما ذات مدلول وهي يقينية، وإما غير ذات مدلول. وفي هذه الخالة لنا شيئاً مطلقاً، ولا ينطبق عليها احتمال الصدق أو الكذب.مثل كلمة ( مقجن ) التي لا نفهم مصداقها في عالم الواقع. لا تعني لنا شيئاً في معارفنا ولا نكون لها مفهوماً في ذهننا، ومن ثم فهي لا يقين فيها.فالكلمة بما لها من مدلول واقعي هي يقينية. لأن الواقع هو معيار الحقيقة ولا وجود لواقع لا نفهمه بواسطة حسنا أو مشاعرنا أو نستدل عليه من أثر ينقله حسنا ومشاعرنا.
ثانيا : من انطباق معنى القضية على واقع. ليس من حيث هو كيف بل من حيث هو وجود. فشرط القضية اليقينية أن لا يدخل في تركيبها كلمة غير يقينية، وأن تمثل حكماً عقلياً بوجود واقع ينقله الحس إلى دماغنا.فإن كان حكماً على وجود الأشياء كان حكماً قطعياً. وأن تعداه إلى الماهيات كان حكماً احتمالياً.ولا بد هنا من التنويه إلى أن قولنا بمعرفة احتمالية لا يعني وصولنا فيها إلى مرحلة اللامعرفية أو الشك المطلق والضياع الفكري.بل يعني أننا لا نستطيع، فقط، الجزم بصدقها واليقين المطلق بها، مع تسليمنا بصحتها واقتناعنا بقربها من الحقيقة.كالحقائق العلمية التي قامت عليها التجارب وأثبتت صحتها. فهي عندنا حقائق لا نستطيع تقديم البرهان العقلي على يقينها أو الوثوق المطلق فيها كالمعارف الأخرى اليقينية.مثل الأحكام على وجود الأشياء، ومثل الرياضيات والمنطق الصوري.
يقين الاستنباط :
فالاستنباط ينحصر في انسجام الفكر مع نفسه، مما يجعل الحقائق الناتجة عنه حقائق نسبيه وصحتها تعتمد على صحة مقدماتها لأن في المقدمات مصادرة على النتائج.
لكن من أين تستمد نتائجه يقينها؟أرسطو مؤسس المنطق يسندها إلى مبادئ الفكر الثلاثة:
1 ـ مبدأ الهوية أو الذاتية: ا هي ا شجرة البرتقال هي شجرة.
2 ـ مبدأ عدم التناقض: لا يمكن أن تكون ا هي ب ولا ب، لا يمكن أن يكون فلان عالماً وغير عالم في الوقت ذاته.
3 ـ مبدأ الثالث المرفوع: ا إما أن تكون ب أو لا ب. فلان إما أن يكون عالماً أولا عالم.
هذه المبادئ عنده، كما رأينا، جاءت من العقل وولد الإنسان مزوداً بها. وهي معيار اليقين في المنطق وسند جميع نتائجه.نحن قد رفضنا هذا القول بإسناد يقين الفكر إلى هذه المبادئ الثلاثة التي تعتبر بمثابة قوانين له. إذ ليس في الفكر قوانين جاءته من خارجه أو ولدت معه بالفطرة. فما هي عندنا إ لا أحكام عقلية مباشرة أصدرها العقل كما يصدر أي حكم قطعي. وهي ليست ثلاثة فقط، بل هناك من الأحكام المباشرة، أو المبادئ كما يسميها أرسطو، التي يثق العقل بيقينها ما لا حد له.وشبيه برأي أرسطو قول الغزالي بالمعرفة الضرورية التي فطر عليها الإنسان ولا يدري كيف ومتى حصلت له، كعلمه أن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في زمان واحد. وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً ومعدوماً معاً.
هذه المبادئ ( عند أرسطو ) والمعرفة الضرورية ( عند الغزالي ) هي عندنا أحكام عقلية مباشرة قطعية. جاءت من العقل بالطريقة العقلية الاستقرائية.وقد أصدرها على وقائع ولم تأت إليه من الخارج، أو تفرض عليه قرضاً وتلزمه أو تقيد مساره عبر قضايا المنطق.بل هو واضعها وملزم نفسه اقتناعاً بالتقيد بها كمرتكزات له في حل قضاياه الفكرية المعقدة.
ففي الأحكام العقلية المباشرة مثل:الجزء أصغر من الكل. والخشب يطفو على وجه الماء والأب أكبر عمراً من ابنه.ولا شتاء وصيف على سطح واحد.وشيئان مساويان لشيء ثالث متساويان فيما بينهما. العقل هو الذي انتج هذه الأحكام وصدق بصحتها وألزم بها.ذلك أنها أحكام تنطبق على وقائع موجودة، تمت مشاهدتها في الواقع المحسوس، أو ثم تمثلها في الذهن عن هذا الواقع المحسوس، كما هي الحال في تلك المبادئ أو المعارف الضرورية.إن انسجام الفكر مع نفسه ينتج حقائق ثابتة يركن إليها، لكنها ستبقى حقائق مشروطة بصحة مقدماتها ومدى انطباق قضاياها على الواقع، الأرضية الصلبة التي يجب أن ينطلق منها فكرنا في بحثه عن الحقيقة. لأن الحقيقة عندنا هي مطابقة الفكر للواقع.
فيقينية المنطق يجب أن تكون في انسجام الفكر مع نفسه، بل في انطباق قضاياه على الواقع. أي يجب أن تكون قضايا الأولى التي تعتمد في استخلاص النتائج أحكاماً عقلية مباشرة صحيحة، أي مطابقة لوقائع لا أحكاماً افتراضية.ولكي يعتمد المنطق منهجاً فكرياً، لا مجرد رفاه فكري، أو أسلوب بلاغي، يقتضي أن يعتمد في مقدماته الحكم العقلي المباشر أو الاستقراء العقلي المستند إلى واقع.بذلك يكون قد أعطى مقدماته يقينها لكي نصل منها إلى يقينية النتائج.
(1)حقيقة تسليمية.
(1) لا نضمن هذا الحدس الديني أو الإلهام الرباني الذي ورد مثله في القرآن " وأوحينا إلى موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ". لأنه يتعلق بالإيمان التصديقي بأي القرآن والاعتقاد بقدرة الله عز وجل بالإلهام الرباني.