العمارة الفكرية الاعتزالية
من كتاب المعتزلة الجزء الأول
العمارة الفكرية الاعتزالية
اظهر مسار الحلقات الاسبوعية، والنقاشات التي تجري، والتداخلات اثناء النقاش، ونوع الاسئلة التي ترد، كل ذلك دل على امر خطير، يتسرب الى كيان المعتزلة، يعيقها عن السير قدماً لإنجاز مهمتها، إضافة الى عدم الجدية في حمل الدعوة لفكر المعتزلة كمشروع ضروري للحياة، أي إحداث النهضة المرجوة، ولهذا لابد منذ المبادرة لعلاج هذه الحال.
إن المعاتبات واللوم الذي تكرر من البعض، بسبب تسفيه قول، او بالرد الحار والحاد على نمط الاسئلة من جهة، والمساجلة التي تجري، دلتا على سطحية الفكر وعلى الذاتية المتفشية في الامة والتي يجب على العدليين عدم الوقوع في شركها، من هنا فإن الحرارة والحدة ضروريتان لمواجهة هذه الحال، وكان الاولى تجنباً لكل ذلك العمل على وضوح العمارة الفكرية الاعتزالية، وقد ظهر واضحاً ان العمارة الفكرية الاعتزالية تعتريها حالة ضبابية عامة عند الشباب، بديلاً عن وضوحها كالشمس في رابعة السماء في يوم صاف لا غيوم فيه، وإذ الامر تكشف عكس ذلك فلا بد من العناية الجادة لرفع مستوى التفكير، إذ هو وحده علاج ذلك.
حتى لا تتكرر هذه السجالات المرة تلو المرة، وتعيق عملية التفكير الصادق المنتج، فلابد من مقاومة الشعور بالخصوصية، وتركز الذاتية الفردية ، وهما امران يأخذان بالظهور من خلال تكرر السجالات بنفس الصورة، مع ان الاصل الانصهار التام في بوتقة العمارة الفكرية المعتزلية، ومنعاً للدوران بهذه الطريقة تسجل الملاحظات التالية:
١- لوحظ وجود ردود فعل على تسفيه رأي، وكأن الرأي تحول او اندمج في الذات، مع ان الاصل عند المعتزلة – منذ لقاء واصل بعمرو بن عبيد - (رضوان الله عليهما) هو القولان التاليين :
* ليس بيني وبين الحق عداوة.
* أدور حيث يدور بي الحق.
* ومع هذين الامرين فلقد اعلن البعض انه لا يود حضور الحلقة، كصيغة احتجاجية على تسفيه الرأي!.
٢- لوحظ تغيب مستمر من الكثرة عن الحلقة بعذر، او بعذر واه، او بسبب كسل فكري تسرب اليه بداع من شعور داخلي في مشكلة خاصة، او لتسرب الاحباط العام الذي يلف حياة الامة، مع ان المعتزلة هي الطليعة التي اخذت على عاتقها مقاومة اليأس والاحباط.
٣- ضعف الإنجاز، فلا يظهر وجود نمو يتسارع مساو للجهد المبذول، (من حيث الحقيقة موجود انتاج ولكنه ليس مساو للجهد المبذول) ان رصد نتائج حركة المعتزلة في الدوائر الثلاث يظهر انها يسار بها في بطئ شديد، سواء في دائرة الدعاة وبناء الوعي المميز عندهم، او في دائرة الانصار على مستوى البدأ في الدراسة أي توسيع حلقات الدراسة، او على حمل الرأي وظهور التأييد في المحافل، مع ضعف العمل على هز قناعات حملة الفكر الاسلامي بمعطيات منهجهم في التفكير، ولزهم للجدل مع المعتزلة دفاعاً عن الذات، او لمباشرة الهجوم على المعتزلة في المساجد، او المحافل، او وسائل الاعلام، ولا يتم ذلك الا بالوعي على الفكر الاسلامي السائد، وفتح الجدل معهم خاصة امام الناس.
٤- حتى لا يحدث إشكال حول القول في الفقرة ذات الرقم (٣) وكأن المعتزلة تتوجه بنقاشها لحملة الفكر الاسلامي، دون حمله الافكار الاخرى، لا بد من الإدراك التالي: وهو ان كل حركة لا علاقة لها بالإسلام، فإن المعتزلة تدخل معها بجدل لنقضها، وزوالها، لكنها مع الحركات الموصوفة بأنها اسلامية، فالمعتزلة تسعى لتصحيح منهجها، أي يتوجه النقاش باتجاه المنهج، فلابد من إدراك هذا الفرق إدراكاً جلياً.
٥- ما يلاحظ على شباب المعتزلة ضعف الوعي الاعتزالي، وهو بالتالي لا يسير صعوداً ويعود ذلك الى ضعف القراءة، وإن وجدت فهي قراءة لم تتجاوز الطريقة السائدة في الامة بلا تمعن ولا تدبر، فالكتاب، الخاص بمناقشة السلفية مثلاُ لم يظهر في صورة فهم دقيق فقد اعترض البعض عليه، بأنه يشن هجوماً على الالباني، مع ان الكتاب بالدرجة الاولى هو نقد لمؤسسة علم الحديث، والبعض كما يظهر لا يباشر القراءة اكتفاء بحضور الحلقة.
٦- لايصح ان تكون غاية القراءة كالسائد بين الناس، غاية القراءة بناء الوعي - أي وجود نسق فكري عام متجانس في جملة الشباب - يخلو من التناقض، او التعارض في اساساته واصوله، او دقيق مسائله، او فروع الشرعيات، فما قيمة هذه الاصول إذا لم تبن الفروع عليها؟.
٧- عدم العناية بإيجاد معرفة اسمها الافق المعرفي (الموسوعية) في علوم الكونيات، وعلوم الانسانيات، بالإضافة الى المعرفة الخاصة باللسان العربي في علومه العشرة، المدونة في بداية جدل الافكار الثاني، مع قراءة العلوم الاسلامية قراءة ناقدة، لايأسر القارئ النص، ولا ينحرف عن اصول الفهم وتوليد الافكار.
كان ناتج المعطيات السابقة مريراً، فالنقاش الذي يدور حول سؤال يخطر ببال واحد من الشباب، لايمكن ان يعطى المدى للجواب، يراوح السجال مكانه، بحيث تظهر صورة الحلقة وكأنها منازلة، والسبب ان السؤال لم يلد ولادة طبيعية من جهة - أي لم ينبثق عن دراسة موضوعية، او استدلالية - ويحدث ان يطلب السائل جواباً لسؤاله العارض نصاً ناطقاً، خلاف ما تبادر الى خاطره، ولعدم وجود النص الناطق مطلقاً، فالنص أي نص موضوع فهم، ولتعذر الاجابة بنص ناطق، تجري سجالات تعتبر من أسوأ السجلات، ومجرد المصارحة بأن السجال صار مطلباً، مما يحدث أثراً مشاعرياً عند السائل فيتأزم الموضوع بدل حله، ومثل هذا يؤثر كثيراً على مسار الحلقة.
تلك هي حقائق جرى التعايش معها اثناء مسار الحلقات، ولهذا لابد من البحث عن كيفية زوال هذه العوارض، دون دعوى وجود كبت او عصبية او تشنج، فكل ذلك جرى وسيجري ما دامت الاسئلة لا تكشف قضية موضوعية، والسؤال في هذا السياق كيف يمكن بعث الحيوية في الحلقات عند شباب العدلية المعتزلة؟.
إن خصوصية افكار المعتزلة انها ذات نسق فكري، وإذا غاب النسق اثناء طرح السؤال او تلقي الاجابة، فسيحل محل النسق الاراء الذرية، وهي آراء عاجزة عن بناء طريقة تفكير مستقيمة، وسيبقى كل شاب عدلي اسيراً لمعطيات تكوينه السابق، وإذ معطيات شباب المعتزلة مختلفة، فسيقود الاعتزال التباين والتشرذم والتناقض، على مستوى وحدة التفكير أي طريقة التفكير وعلى مستوى الفكر أي مجموعة المفاهيم وعليه سيقود الفكر الذاتية والذرية، المقصود بالذرية نسبة الى الذرة أي تناول الفكر كأجزاء، وليس كنسق له اصول.
يبدأ النسق الفكري من تسليط البحث على الانسان، والكون الي يعيش فيه، وكيفية الحياة التي يحياها، وعند ما يقال الانسان المعرف ب (أل) التي تفيد الجنس، فإن المراد جنس الانسان وليس فرداً منهم، ولكن يجب إدراك ان البدء في نشر المنظومة الفكرية لا يبدأ من الانسانية ككل، وانما يبدأ من الفرد الانساني، وهو يبدأ من فرد من بني الانسان بصفته انساناً، وليس بصفته فرداً، إذ من اكثر الامور سوءاً ان يبدأ من الفرد بصفته فرداً وليس بصفته انساناً، تلك هي الحقيقة التي لا بد ان تكون واضحة في ذهن المعتزلي.
يبدأ البحث في الانسان من كونه ذاتاً عارفة، وموضوعاً يعرف، والمعرفة الانسانية عند المعتزلة تتم عقلاً، والعقل هو الاستعداد المخلوق في الانسان منذ الولادة مع المعلومات، ولا يجوز الفصل او حتى الترتيب بينهما، فالمعرفة ليست مادية، او مثالية، او موروثة، او تسليمية او فطرية، او عرفانية، او من حيث هي مجرد بلاغ من رسول، او نبي ، فالمعرفة تبدأ تلقيناً مرتبطاً بالواقع، فلا الواقع عقلاً، ولا التلقين عقلاً، بل العقل كلاهما، ولكنه في البدء لا يكون عقلاً مكلفاً، إذ لابد ان يسبق قبول بلاغ الرسول او النبي الدليل على رسالته، المعتزلة عند حالة التكليف، هي كما عرفها القاضي عبد الجبار هي حصول المكلف (الفرد الانساني) على جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال، والتكليف يأتي من إدراك الانسان امام الحاح الفطرة (الشعور الداخلي بالنقص) وملاحظة مظاهر الحياة بما فيها من مظالم وقتل وعدوان وفساد، ومشاهدة الموت الذي يعقب الحياة، والخوف الذي يثور عند الانسان من المستقبل في دنياه، وعيش الانسان ضمن مسارات ومساقات دعوات عديدة دينية، وسياسية، وفكرية، وفلسفية، تتباين في رؤاها، كل ذلك يشكل بمجموعه او بمفرده من مفرداته او اكثر دعوة للانسان، لأن يعرف نفسه، ويعرف دربه.
لقد وضعت المعتزلة تلك المقدمات الانسانية موضع البحث، نتج عنها منهج للتفكير واقامت عمارة فكرية محددة الاسس عند الحجج والادلة والاصول، بحيث يمكن منها الوصول الى الفروع في سائر القضايا القديمة، والمستجدة، والنازلة ، على مستوى الموضوع والحكم والموقف.
(١)
الحجج والادلة
١- العقل هو اول الحجج والادلة وأصلها، احتاج غيره اليه، ولم يحتج العقل لغيره، وإنما دل على غيره دلالة لازمة - أي ان الحجج والادلة الاخرى هي حجة ودليل بالاستناد الى العقل والعقل حاضر فيها عند اعتبارها ، وعند فهمها، وعند موضوعها.
٢- القرآن الكريم كله حجة ودلالة على وجوه، ولا يمكن الاجتجاج به الا من خلال اصلين وصل اليهما العقل، وهما: التوحيد، والعدل.
٣- سنة المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله وسلم حجة، وقد دل الكتاب عليها دلالة واضحة، وحصرها بأنها بيان لمجملات القرآن، وادرك العقل الحاجة الماسة لهذا البيان.
٤- الاجماع وهو دليل غير مستقل، إذ هو دليل عائد، يعود للعقل فهو صورة من صور الدليل العقلي، او يعود الى الكتاب فيكون من ضرورات الاستدلال بالكتاب، ويعود الى السنة فيكون من السنة.
هذه الادلة لا يعمل الواحد منها بالانفراد، فهي تعمل وكأنها حجة واحدة، ودليل واحد فهي حجج وادلة تتناسق وتتكامل ويعضد منها الواحد الآخر، ولكنها كله مستندة الى العقل ومعتمدة عليه، إذ العقل حجة قائمة بذاتها، مع ضرورة ملاحظة طريق الاستدلال في الفروع إذ ينصب النص دليلاً في احوال، وأمارة في احوال اخرى، وفي بعض الفروع تقوم الحجة بالنص منفرداً، لكن ذلك لا يعني الذرية بالفهم، بل يعني وجود اتصال عام بين دليل او أمارة الفرع والحجج والادلة الاساسية.
(٢)
اصول الدين الاسلامي
١- الايمان بالألوهية - وهي ليست العبودية - بدليل العقل، وهو يثبت اصلين مهمين وعظيمين هما التوحيد والعدل، وهما اصل كل الاصول الآتية.
٢- النبوة وهي لطف للمكلف، وزيادة حجة، ودعوة لزوال غفلة، ومع معرفة الشرعيات لا بد من ادراك انتفاء المنافع والمضار عن الله تعالى ، فالتكليف مصلحة للمكلف، ادرك العقل ذلك، ام لم يدركه ، فالمصلحة تعلم على الجملة.
٣- الشريعة وهي مفردات بلاغ النبوة، وهي مع العقل تقود حياة الفرد، والمجتمع، والدولة فلا بد من ظهور شموليتها في تنظيم الحياة.
٤- البعث والجزاء.
إن هذه الاصول الخمسة، باعتبار التوحيد والعدل اصلين، هي الاصول التي يقر بها اهل القبلة جميعاً، ولكن اقرارهم مخالط بأمرين، هما :
١- كيفية ترتيب الادلة.
٢- حقيقة معاني هذه الاصول.
ولهذا اختلطت عليهم كيفية الاستدلال بها، اما المعتزلة فقد تميزت عن اهل القبلة جميعاً بأصول خمسة، تشكل السمة الفارقة بينهم وبين اهل القبلة، ومع ان الزيدية تحديداً تتبنى هذه الاصول الخمسة، الا انه شاب فهمهم لأصل العدل شائبة، هي النص غير الجلي في استحقاق الامامة، إذ اثبت تاريخ التطبيق لهذا الفرع كثيراً من المشاكل، فضلاً عن مشكلته الثاوية فيه كفرع على اصل، وهي ان العدل والتكليف يعني تكليف الناس كأفراد، وكجماعة، وتطبيق الاسلام من المسؤوليات الجماعية فاختصاصه ببيت النبوة (على الابرار منهم السلام) ليس مأموناً العاقبة، ولذلك كان رأي الأصم من المعتزلة أن النبطي أولى بالامامة من صاحب العزوة، لإمكانية عزله إن أساء بلا كلفة، واختلاف قدامى اهل البيت فيه، وقول الزيدية هذا يبدو في حالة تعارض مع التكليف، أي خلق العباد لأفعالهم، ويتجلى الآن وبصورة واضحة - مع كثرة اهل البيت إن هذا الفرع يشكل عقبة كأداء في وجه العاملين لبناء عقل الامة من جديد، على اساس التوحيد والعدل.
(٣)
الاصول الخمسة للمعتزلة
١- التوحيد : إن صورة التنزيه لذات الله، التي يتبناها المعتزلة والزيدية هي الصورة الموضحة للتوحيد، وما عدا صورة التنزيه العدلية فهي صور خالطت توحيدها بما لايصح ولا يجوز بحق الله، والتوحيد التنزيهي هو الذي يجعل الفرد مؤمناً حقيقة بالله تعالى.
٢- العدل : إن مفهوم العدل يعني :
١- ان الله لا يفعل القبيح والقبيح تعلمه العقول.
٢- الله لا يظهر المعجز على الكذابين تأييداً لهم او امتحاناً واستدراج الغير لاتباع الضلالة.
٣- لا يكلف الله الانسان ما لا يطيق ومن هو دون العقل، او لا عقل له، فهو غير مكلف.
٤- لا يفعل الله الا على مقتضى الحكمة.
٣- المنزلة بين المنزلتين : هذا الاصل زلت به الاقدام سابقاً، من وعيدية، او مرجئة، وهو واضح عند المعتزلة سابقاً، ولاحقاً، ولكن جرى عليه غبش في وضع الموصوفين بالنفاق فالعلاقة مع اهل النفاق هي نفس العلاقة مع اهل المنزلة بين المنزلتين، إذ لا يوجد نفاق عقدي، وإنما النفاق هو العملي، وكون بعض المنافقين في الدرك الاسفل من النار بسبب ان ضرر افعال بعضهم يفوق ضرر الكفر المجرد.
٤- صدق وعد الله وصدق وعيده : يتأسس صدق الوعد وصدق الوعيد على وجود التكليف والتكليف نوع تعلمه العقول، مثل قبح تعطيل العقل، وقبح الظلم، وقبح الاعتداء على الحياة، وقبح اذى الانسان لانسان آخر، وقبح عدم شكر المنعم، وقبح تكليف مالا يطاق فهذه كلها واجبات عقلية، اما الواجبات الشرعية وهي زيادة التكليف، فلا تعلم الا من الخطاب، ويعلم الوعد والوعيد المؤجل بدليل العقل على المخالفة، اما على التعيين فهو بالنص والله وعد وتوعد، فهو صادق الوعد لا يخل بوعده، وصادق الوعيد لا يخل بوعيده، وفي الوعد احباط للثواب المستحق حين يفعل ما هو اكثر تأثيراً من حسناته، وفي الوعيد تكفير للذنب بعمل الحسنات والاستغفار، وفي الفسق والمعاصي التوبة الصادقة المقترنة بالندم، مع عودة الحقوق، ان كانت من حقوق العباد، مع كثرة الاعمال الصالحة، وفي الكفر الدخول بالاسلام والتزام عمل الصالحات.
٥- وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر : ماذا يعني هذا الاصل وكل المسلمين يقولون به ويرونه واجباً؟ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة له صورة مركبة، اهمها وجود إمام بعقد مراضاة، وبيعة على العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، يتم العقد بينه وبين الامة بصفتها كياناً جماعياً، يعبر عن الوعي السائد في الامة، والامة هي صاحبة السلطان تطيع الامام مالم يخرج على مقتضيات العقد، وتحاسبه على السياسات لاستمرار الاستقامة، وتعزله إذا استحق العزل ولو بالسيف،وهذا ما لم تتبناه بعض مدارس الفكر الاسلامي في مفهوم الاختيار ومفهوم الطاعة.
ذلك هو المنهج والاصول والاسس، لكن هذا المنهج يبنى عليه فروع نظرية، ومسار عملي تطبيقي هي التالية :
* افكار متعلقة بالايمان، اساسها التوحيد، والعدل وصدق الوعد والوعيد.
* احكام متعلقة بالموقف الذي يجب ان تقفه الامة، تجاه الفئات الثلاث، وخاصة اهل المنزلة بين المنزلتين.
* احكام شرعية عملية متعلقة بمسار الحياة الدنيا (أي ملاحظة البعد الحضاري للحكم الشرعي).
من الضروري ان تنضبط هذه الفروع بالاصول، ولايجوز ان يكون الفرع ناقضاً للاصل، او غير مبني عليه، فمثلاً صلاة الجنازة على الفاسقين، والمنافقون منهم فرض كفاية على المسلمين، ولا يجوز القول بغير ذلك، ما دامت المعتزلة تؤصل اصل المنزلة بين المنزلتين ويرون الصلاة على الفاسق فرض كفاية، فآية ولا تصل على احد منهم مات ابداً تحمل إما على انها خاصة بالرسول، او تحمل على صلاة ولي الامر، والمعتزلة المعاصرة ترى حملها على الثانية، إذ الاصل في القرآن انه هدي عام، حتى فيما هو خاص فلا يخلو من هدي والخلاصة التي لا بد منها في موضوع الفروع، انه محتاجة لان تربط بثلاثة امور هي :
١- ان يبنى الفرع على الاصل.
٢- ان يفهم النص حسب دلالة اللغة العربية.
٣- ان يكون العمل بالفرع حسب الوسع والطاقة، والوسع والطاقة امر عقلي متعلق بالمشاعر والممكن من جهة، او امر شرعي من جهة اخرى.
في مجموع السجالات التي حدثت، غابت اصول المعتزلة وطريقتها في بناء الفروع على الاصول، وكانت الرؤى التي تقود النقاش هي رؤى لحزب التحرير، ورؤى للمكفرة، ورؤى للقرآنية، ورؤى للاقليمية الفلسطينية، ورؤى للاخوان المسلمين، ورؤى للجهادية، فماذا بقي من المعتزلة؟ ما دامت هذه العنعنات تطفو على السطح اثناء الحلقة والشرح !.
لقد ظهرت بين المعتزلة الاوائل اختلافات، ولكنها كانت في الدقيق من الكلام، وإذ الدقيق من الكلام تعلق بعلوم الطبيعة (الكونيات) في زمن سيطرة المفاهيم التوراتية للكونيات إذ رفض المعتزلة تفسيرات التوراة، وهي من الخرافة والاسطورة بمكان، فمن الطبيعي وعلم الكونيات في بدايته، والمعتزلة هم باحثوه، ان تكثر بينهم الاختلافات، لكن الدقيق من الكلام، وهو المختلف فيه اصبح في ذمة التاريخ بعد الانفجار المعرفي، فلابد ان يكون المعتزلة الآن اكثر اتفاقاً حتى في الدقيق من الكلام.
منذ وجود المعتزلة كان للمعتزلة رؤية في الشرعيات، إذ قالوا هذا علم لكل مجتهد فيه نصيب، فكانوا في الفروع أحنافاً على الغالب، والبعض منهم زيدية - مع ملاحظة ان الزيدية لم تكن في زمنها الاول مفصولة عن المعتزلة - بل كل موصوف بأنه زيدي من الاوائل فإنه معتزلي، ومن المعتزلة من كان على الشافعية في الفروع، هذا في ما مضى من الزمن، والآن ولحصول التقدم بالفهارس، ولوجود تاريخ مدون للآراء في الفروع ، ولنضج الفقه المقارن فالمستغرب بقاء الشرعيات محل اخذ ورد، فالمطلوب الآن تشكيل رؤية اكثر اتفاقاً في الشرعيات واحالة ما لايمكن ترجيحه ترجيحاً مشتركاً الى عدم تواصل السجال فيه، وعند ذلك المطلوب العودة لقول اوائل المعتزلة، هذا علم لكل مجتهد فيه نصيب.
التحليل السياسي هو مجرد محاولة لفهم دوافع الاحداث السياسية عند صانعيها، واصحاب الادوار في تنفيذها، والغاية الاساسية المقصودة من الحدث السياسي، والاهداف الجانبية الاخرى واصدار حكم في الاستطلاعية من حيث امكانية النجاح والفشل، واثر الحدث على مستقبل الامة الاسلامية، والتحليل السياسي غايته رعاية الشؤون.
إن مجريات الاحداث العالمية اخذت الآن وقبل الآن أي منذ وجدت الآيدلوجيا (المبادئ أي وجهة النظر) صفة صراع الحضارات، وقد انتقلت العلاقات الدولية السياسية العالمية من الاجتياح، الى التوسع الالحاقي، الى الاستيطاني، الى الاستعمار الكولونيالي، الى الامبريالي فالشرعية الدولية، فالعولمة، تلك هي علاقة الغرب مع هذه البلاد منذ الاسكندر المقدوني وحتى هذه الساعة، بينما كانت علاقة الفتح الاسلامي الضم والمساواة بالمركز، فلا بد من ادراك صراع الحضارات، وانه المحرك الرئيس للاحداث السياسية، لقد غاب والى الابد صراع الدول الاستعمارية.
في قضية العالم الاسلامي - سواء سميت المسألة الشرقية، او الشرق الاوسط، او قضية فلسطين، او قضية الخليج، او الاحتواء المزدوج، فهي قضية واحدة هي القضية الاسلامية والغرب يسعى سعياً حثيثاً لمنع الحضارة الاسلامية الكامنة في الامة من التعبير عن نفسها، سواء في الهوية الحضارية، او التحرير، او الوحدة، وكل هدف من هذه الاهداف لا يجوز ربطه بالآخر، مما ينتج سوء الفهم كما يحدث في قضية العراق، وكون التوجيه السياسي في العراق بيد حزب البعث، فالاهداف الثلاثة إذ تطل على بعضها، وقابلة لأن تنفتح على بعضها وهذا ما يدركه الغرب واضحاً، فعلاجه للواحدة منها علاج حاسم لايقبل التأخير او التسويف.
بعد الفقرتين السابقتين : الاولى حول مجريات الاحداث العالمية حالياً ، الثانية معرفة أس القضية الاسلامية ، فمن الغرابة عدم حضور هذين الاساسين لفهم الاحداث في العالم الاسلامي وهذان الاساسان هم اساسان اجتهاديان، فليس من الممكن ان يكونا ناطقين، وانما هما قواعد للفهم توصل اليها بالرصد المتتابع للتاريخ، والحدث ، ونتائجه ، وكشفت الاحداث صدق هذا التأسيس، فحتى هذه اللحظة لم يظهر على هذه النظرية أي عجز عن تفسير الاحداث الجارية وحتى بتطبيقها على الماضي منذ الحرب العالمية الاولى وحتى الآن.
امام الحقائق الناصعة السابقة، لا بد من التأكيد ان وظيفة المعتزلة هي رفع مستوى التفكير في مجمل الامة، فليس وظيفة المعتزلة السجال في فروع فقه تباينت عند اصحابها، وليس وظيفة المعتزلة الوقوف عند اسس سياسية ظهر عجزها فاضحاً.
إن رفع مستوى التفكير يقتضي حتماً رفع مستوى الجدل، وليس مجرد وجود جدل، فالجدل له اصول وقواعد، فلا يجوز توليد السؤال قبل اكتمال سماع الجواب، كما جرى في نقاشات حلقة المعتزلة وللجدل اصول هي :
١- تحرير المسألة تحريراً تاماً، أي المعرفة التامة للمسألة من حيث هي موضوع للبحث، ولا يجوز وضعها موضع البحث دون تحريرها.
٢- وضوح القواعد الناظمة للمسألة.
٣- دراسة القضية دراسة موضوعية، إذ كل قضية تطلب منهجها، ففي القضية النظرية المطلوب التدليل على موضوعها، وفق اسلوب المنهج الذي تقتضيه، إذ مناهج البحث متعددة.
٤- وصف الواقع وصفاً دقيقاً دون هوى او تحيز.
٥- استحضار جميع النصوص في حالة الفروع الفقهية، وادراك الحوادث بدوافعها زماناً، ومكاناً، واشخاصاً، ورصد ردود الفعل في حالة الحكم على اعمال سياسية.
٦- تطبيق منهج السبر والتقسيم، أي استقراء كل الاوجه الممكنة في المسألة.
تلك هي خطوات السير في الدرب المنتج في التفكير، وفي نقله للناس، ومع هذا فإن اختلاف وجهات النظر في أصل او فرع، او تفسير حدث، او حتى في وصف واقع، امر ممكن، ومن هنا فالاختلاف والحرارة والحدة ممكن وجودها، لكن المطلوب ان لا تفعل في الذات أي فعل او موقف، لقد وعت المعتزلة هذا الامر جيداً، فالمعتزلة ليسوا حملة اسفار او حفظة نصوص ولكن لابد في حالة الجدال قبول الألزام، أي قبول الواحد لفكرته لبحث صحتها، ومدى قوة دليلها، وحيويته، ودرجة اهميته، فعدم قبول الألزام يعني أن يراوح الجدل مكانه، ولا يوجد حشد من المفكرين.
الامة الاسلامية بعد قرنين ونصف من محاولات النهوض، وفشل جميع المحاولات تراثية كانت او تغريبية، اعترت جماهيرها حالة من بلادة الحس، والانسحاب من امكانية التفكير، وظهر على كل الحركات - المباشرة لمشروع النهوض كما تزعم - حالة من العبثية والعدمية والثرثرة والقول والفعل الفردي الذاتي، فإن الكارثة ان تتسرب هذه الاعراض المرضية الى كيان المعتزلة الفكري والفعلي، بأية حجة كانت ومهما سوغت نفسها.
كان من الضرورة وضع هذه الملاحظات بعد تكرار للسجال، في مواضيع وصور مختلفة يضيق به ذرعاً المعتزلي الجدي السائر في درب التأثير، ضمن فن الممكن، وليس فن التكيف مع الواقع، فحتى يسار بجدية كما هو دأب المعتزلة، لابد ان توضع هذه الملاحظات موضع النقاش والجدال ولو استمر النقاش طويلاً.
هذه هي نشرة داخلية، وكما التزمت المعتزلة منذ مسارها بنظرية الدفع الذاتي، أي تشكيل القناعات الدافعة دون الألزام، فهي مع ذلك الخط دون خروج عنه.
والله أسأل احسان السمع واستمرار البحث وادعو أن يمدنا بعون من عنده