توهة مشاريع النهضة بين الجابري والانصاري
توهة مشاريع النهضة بين الجابري والأنصاري
تعدد المفكرين وتوقف المتحركين
مشاريع النهضة المزعومة هي مجرد حالة سكون
قبل الدخول لمشروعي الجابري والأنصاري لا بد من قراءة هذه الأسس إذ هما يطرحان كل على إنفراد مشروعاً للنهضة وكل مشروع من الجابري أو الأنصاري فإنه متوجه للعالم العربي من حيث الجغرافيا وللعرب من حيث التاريخ هذه هي أوجه الاشتراك بين المشروعين ورغم اختلاف المشروعين إلا أنه تجمعهما سمة مشتركة هي الانفعال بالغرب :
على ضوء ذلك لا بد من ملاحظة الأسس التالية :
1- يفترض المفكران وجود عمق تاريخي مشترك بين العالم العربي الراغب بالنهضة وهو مجتمع كان ناهضاً في حقبٍ سابقة فالمراد من مشاريع النهضة هو بعث الحياة التي اعتراها الركود وإذ طالت غفوتها فقد تأسنت حياتها.
2- يترتب على ذلك اعتراف المفكرين بأن حضارة العالم العربي ومجتمعاته اعتراها واقع الانحطاط فأدى ذلك الى افتقاد ديناميكية الحضارة وهذا الوعي بواقع الانحطاط شرط ضروري للتبشير بأي مشروع للنهضة.
3- التسليم ضمنا بفشل جميع محاولات النهوض السابقة مهما كانت الأسماء ومهما تباينت التيارات.
4- ان سمات مشاريع النهضة السابقة استهدفت جميعاً بلا استثناء تحقيق الوحدة والتحرير وتحديد الهوية ومع اتفاقها جميعاً على الهدفين الاول والثاني الوحدة والتحرير إلا أنها تباينت عند موضوع الهوية بين الاسلامية والقومية والاشتراكية العالمية والحداثة الأوروبية.
5- لا بد من التصريح وبصوت مسموع أن المشروع القومي قد استعار الكثير من مفاهيمه وتحليلاته ومرتكزاته من الاشتراكية العالمية كنهج فكري ومن الحداثة الأوروبية كتطلع تقدمي مما أمكن وصف المشروع القومي بأنه مشروع من مشاريع اغتراب الأمة عن هويتها.
6- لقد تمزق التيار الإسلامي أمام ضغط الأحداث وقوتها إلى تيارين أساسين هما التيار التنويري والتيار السلفي وإذا كان الاول يقترب من الاغتراب فإن الثاني يميت حركة الاجتهاد الإسلامي، على ضوء المرتكزات الست السابقة ما هو الجديد في كل من مشروع الجابري ومشروع الأنصاري.
يعلن الجابري في كل كتاباته بضرورة الانطلاق من الماضي والتقاطع معه في نفس الوقت ويحدد ذلك بقوله أن يكون لنا فهماً للماضي ليس فهماً تراثياً.
والسؤال الذي يبقى قائماً ما الذي يقصده الجابري من الانطلاق من الماضي والتقاطع معه في نفس الوقت الجابري وهو الذي كتب كثيراً حول مشروعه بل وشكّل مكتبة يمكن أن تسمى مكتبة الجابري أبقى الوعي على مشروعه غير مفهوم والدليل على ذلك أن قارئي الجابري من القوميين والماركسيين والحداثيين اللبراليين والإسلاميين التنويريين والسلفيين مختلفون معه وإذا كان المختلفون معه هم المفكرون طبعاً فما هو القول في السواد والعامة وهكذا بقي مشروع الجابري حبراً على ورق أو ورقاً عليه حبراً يقرأه المتنعمون ويكتبون عنه ويجادلونه ويحاورونه ويسمعه العدد الغفير دون أن يتأثروا به أدنى تأثير ويبقى مشروع النهضة يراوح مكانه.
ذلك هو الجابري الآتي الى الجمهور الأردني من أقصى الغرب [ غرب العرب ] وهو قد اشتهر واشتهر ولكنه بقي في حضن الاغتراب يغير في آرائه كلما غير أحد المفكرين الماديين على الخصوص رأيه.
الأنصاري جاء إلي الجمهور الأردني من أقصى الشرق [ شرق العرب ] من البحرين ويقيم تساؤلات عديدة ربما كان أكثرها أهمية هو السؤال المركزي وهو : كيف استطاعت أمم ومجتمعات ناهضة أخرى في الشرق تجاوز عقبات النهوض وأزماته؟ بينما لم يستطع العرب تجاوزها .يحاول الأنصاري أن يقلل من أهمية فعل الغرب في كونه صاحب تأثير في منع العرب من تجاوز العقبات والنهوض مستدلاً بأن الشراسة التي واجهت اليابان بقصفه في قنبلتين نوويتين بالإضافة إلي شدة القصف الجوي الذي طال جميع مدنه أثناء الحرب العالمية الثانية.
الأنصاري يحاول أن يغطي الشمس بالغربال وهيهات ذلك وهيهات فالغرب نفسه يعلم أن الصراع بينه وبين اليابان صراع على النفوذ والاستعمار وهو صراع يُنظر إليه بنفس المنظار الذي ينظر به الى ألمانيا وإيطاليا شريكتي اليابان في الحرب العالمية الثانية وها هما ألمانيا وإيطاليا مصنفان بالدول المتقدمة فالمسألة ليست في التجاوز للعقبات فاليابان أخذ بيدها الأمريكان أنفسهم للإنجاز الصناعي فاليابان لا تمتلك حضارة أخرى مخالفة لوجهة نظر الولايات المتحدة بخلاف العالم الإسلامي والعالم العربي يشكل الأساس في العالم الإسلامي فالولايات المتحدة تنظر إليه من زاوية واضحة جلية هي الخوف من تنامي الحضارة الاسلامية.
الأمر المهم في إدراك كيفية السير في موضوع النهضة إدراك المعوقات في الداخل والخارج بل أن حركة الداخل لا تكون حركةً منتجة إذا غفلت لحظةً واحدة عن موضوع الخارج فالداخل ينظر إليه لتفعيله نحو التغيير والخارج لاتقاء خطره وإبطال مفعوله وها هي دعوة للقارئ الكريم لقراءة فقرتين قصيرتين من كتاب فرنسيس فوكوياما وهو كتاب نهاية التاريخ وخاتم البشر والمفارقة أن الكاتب أمريكي من أصل ياباني يقول فوكوياما : صحيح أن الإسلام يشكل أيدلوجيا منسقة ومتماسكة مثل اللبرالية والشيوعية وأن له معاييره الأخلاقية الخاصة به ونظريته المتصلة بالعدالة السياسية والاجتماعية، كذلك فإن للإسلام جاذبية يمكن أن تكون عالمية، داعياً إليه البشر كافة باعتبارهم بشراً لا مجرد أعضاء في جماعة عرقية أو قومية معينة، وقد تمكن الإسلام في الواقع من الانتصار على الديموقراطية الليبرالية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشكّل بذلك خطراً كبيراً على الممارسات الليبرالية حتى في الدول التي لم يصل فيها الى السلطة السياسية بصورة مباشرة وقد تلا نهاية الحرب الباردة على الفور تحدي العراق للغرب وهو ما قيل (عن حقٍ أو عن غير حقٍ) أن الإسلام كان أحد عناصره.
ويستمر فوكوياما قائلاً : غير أنه بالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول أن هذا الدين لا يكاد يكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة وقد يبدو أن زمن المزيد من التوسع الحضاري الإسلامي قد ولّى. فإن كان بوسع الإسلام أن يكسب من جديد ولاء المرتدين عنه. فهو لن يصادف هوى في قلوب شباب برلين أو طوكيو أو موسكو ورغم أن نحو بليون نسمة يدين بالإسلام (أي خمس تعداد سكان العالم) فليس بوسعهم تحدي الديموقراطية الليبرالية في أرضها على المستوى الفكري، بل أنه قد يبدو أن العالم الإسلامي أشد عرضة للتأثر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث العكس، حيث إن مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت الى نفسها أنصاراً عديدين وأقوياء لها من المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين والواقع أن أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية الليبرالية على المجتمعات الاسلامية التقليدية. انتهى الاقتباس.
الجابري يدعو للتغريب بالاتكاء على ابن رشد والأنصاري يدعو إلي التغريب بالاتكاء على مسألة السلوك المدني في الحياة العربية ويفسر السلوك المدني بأنه مجتمع تحضنه مدن تتوفر فيها شروط الحياة المدينية من اجتماع منصهر أو منسجم كحد أدنى بين العناصر السكانية واقتصاد مشترك بينهم، وإدارة مدينية تنظمهم وثقافة وتربية مدينية واحدة فيما بينهم لا تتوزع بين ثقافات وتربيات البنى والتعدديات التقليدية المهاجرة للمدينة فلا حضارة ولا اجتماع مدنياً بلا مدن وعندما نقول المدينة المتريفة أو المتبدونة كما تعاني منه أكثر مدننا العربية فما حصل في واقعنا المجتمعي المديني هو أنه بدل تمدين الريف والبادية تمت ترييف المدينة أو بدونتها وقد لا يكون من المبالغة القول أحياناً أن المدينة العربية المعاصرة ما هي إلا قبيلة استقرت أو قرية تنامت اعتباطاً وفي عشوائية.الخ الجديد في مقولات الأنصاري التي تنظر لمجتمع يؤثر عليه أو يشكله كونه مدنياً أو مدينياً على حد تفريقه وليس ريفياً أو بدوياً.
النهضة عند الأنصاري مرتبطة بالسلوك المدني المرتبط بالحياة في المدينة الناشئة نشوءاً مدينياً وهكذا تحولت النهضة من الإنسان المفكر الجماعي الذي ينظم علاقات مجتمعه على أساس الفكر الحياتي المشترك الى تأثير مكاني وأشكال مدنية تستعمل في الحياة وبالتالي هناك فرق عند الأنصاري بين الإنسان في المدينة وإنسان الريف وإنسان البادية فالمشكلة ليست في المعرفة وتنظيم الحياة المشتركة أي ليس في مؤسسة الأمة ونظامها الظاهر في الدولة بل في تنظيم العلاقات على نظام تعدد المؤسسات وتعدد الشرائح الاجتماعية وبالتالي إنتاج الدولة الحديثة وهي مجرد دولة وظيفتها مجرد إيجاد تناسق بين المؤسسات المحتلة للشرائح الاجتماعية وهذا ما سمّاه بالتعايش المنسجم.
المشكلة التي بقيت بلا حل هي الكيفية التي يجري بها إنتاج هذا المجتمع المديني المتمظهر بالاجتماع المنسجم والاقتصاد المشترك هل يمكن أن يوجد مثل هذا المجتمع بدون الأخذ بالإنتاج الصناعي المتقدم أي وجود نشاط صناعي طبقة رأسمالية متحكمة بالرأسمال وطبقات عمالية وخدماتية تحصل على مستوى من العيش الكريم لا يجعلها من شدة فقرها تصرخ ليتني لم أخلق وبقي السؤال بلا جواب هل يسمح الغرب للعالم العربي أو الإسلامي أن يكون متقدماً صناعياً؟ وهل يمكن أن يكون متقدماً صناعياً وعدد كياناته اثنان وعشرون كياناً؟ تلك هي المشكلة المعضلة لهذه الأمة وهي علاقة الغرب بهذه الأمة والتي تعود الى مفتتح حضارة الأنصاري هي قوله:
إن الحكمة السائدة في خطابنا العام هي أن المؤامرة أجنبية، وأن المسؤولية تقع على الأنظمة العربية.
على افتراض أن ليس هناك مؤامرة أجنبية وأن الكيانات القائمة مخلصة كل الإخلاص للشعوب التي تحكمها لكن أليس هناك مخططات غربية تتعامل مع العالم العربي والعالم الإسلامي على اعتبار أنه ممكن الخطر على هيمنة الحضارة الغربية ولذلك فهي تضع خطوطاً حمراء ثلاثة هي منع وحدته وتركيز السيطرة والهيمنة عليه وتمييع هويته بل وتباشر منعه من استعمال معرفته لإنتاج المصانع الإنتاجية وصناعة الأسلحة ووسائل النقل والسفر وإنتاج التكنولوجيا وتحدد بنيته الصناعية بأنها التعدين المعتمد على الآلة الغربية والزراعة المعتمدة على الغرب والصناعات التحويلية المعتمدة على الغرب والسياحة المعتمدة على الغرب في إدارتها وأسماء الفنادق والأطعمة فأين مشروع الإنفكاك من الغرب عند الجابري أو الأنصاري أو الآلاف من المفكرين على نمط الأنصاري المشرقي والجابري المغربي المتفقين على ضرورة السير في هذه الأمة نحو التغريب والتبعية والتجزئة.
أيها الجابري أيها الأنصاري
هل يمكن لمفكر ما أن ينجز مشروع نهضة؟ طبعاً المفكر يمكنه أن ينجز بلاغ نهضة أي تدوين المشروع على صورة كتاب أو رسالة أو بحث أو خطاب أو محاضرات وهذا الامر قام به كل واحد منكما فالبلاغ بمشروعيكما مسموع في العالم العربي لكن تحوله الى ممارسة أو وجود دعوة تحوله الى وعي جماهيري ليتحول الى ممارسة أمران غير موجودين فبقي مشروعيكما كتباً في مكتبات هذا من جهة ومن جهة ثانية فهل يرى كل منكما أن مشروعه ممكن أن يتحول الى عقل الجماهير له وعياً وذاكرة وممارسة؟ إذا كان الجواب أن الامر ممكن في ذاته فلا بد من الدلالة على هذا الإمكان خاصة وكل منكم يعلم أنه على امتداد المسافة الجغرافية بينكما من المغرب الى البحرين يوجد آلاف المفكرين مثلكما وفي حالة الاقتراب والاختلاف القليل معكما بل أن مشروعيكما مقتربان ومختلفان فكيف يمكن أن يتحول الاتفاق والاختلاف الى حالة عملية وممارسة حقيقة تهدم وتبني في آن واحد أم أن الامر كله حالة سجالية مستمرة لا تمكن من اللقاء فتكون مجرد ألهية وحراثة في البحر وزيادة عبث وعدمية.
تلك هي إشكالية النهضة الممتدة من الوثيقة القادرية 408 هجري وحتى اليوم فالعودة للتنوير أو لابن خلدون أو لابن رشد لن يحل هذه الإشكالية حل الإشكالية يبدأ من ملامسة أول مفصل في الخلل والقصور في التكوين الجمعي للامة وأول مفصل أحدث الخلل وأوقف مسار الأمة الصاعد هو غياب الاجتهاد بسبب الوثيقة القادرية تلك هي الحقيقة إلا إذا أُريد استيراد حداثة من الغرب والشرط الموضوعي لتثمر الحداثة الغربية وقد لا تثمر هو إعلان أن العمق التاريخي للامة هو عمق مخجل لا بد من البراءة منه وجعل التاريخ الغربي القروسوطي والعصر المسيحي اليهودي والروماني واليوناني هذه تراث الامة وتاريخها وهذا الامر لن يكون مهما حاول المستغربون ذلك.